أصدق معاني الوفاء
الوفاء من شيم المؤمنين الذين يتحلون بالأخلاق الكريمة والذين يبذلون بلا حدود ويعطون بلا مقابل. فالوفي تدفعه نيته الطيبة لأداء الواجب دون زيف أو تصنع أو نفاق. الوفاء سمة إنسانية يتصف حاملها بأنه صاحب قلب كبير محب، يتجاوز في حبه حدود الزمان والمكان. يتمتع الوفي بمصداقيته في القول والعمل ويمتلك ذوقًا سليمًا يعكس كرم الأخلاق والكمال في أعلى درجاته.
كنت في زيارة إلى أحبة غيبهم الزمن إلا أن حضورهم القوي كسر الكثير من قواعد ونظريات الحياة. فعلى أن وجودهم الجسدي أصبح من الماضي إلا أن أرواحهم وجميل أقوالهم وأفعالهم مازالت حية تخترق الإذان وتتحدث بصوت عال يتجاوز أحاديث الكثير ممن يعتقدون أنهم أحياء، فقط لأن قلوبهم مازالت تنبض.. والشاعر أحمد شوقي له قول في هذا المقام حيث يقول
الناس صنفان موتى في حياتهم..
وآخرون ببطن الأرض أحياء
في هذه الزيارة لفت نظري أمر غير مألوف، حيث صادفت أحد العمالة الآسيوية فظننت أنه يقوم ببعض أعمال الصيانة في المقبرة. لكن عندما رأيته متوجهاً إلى أحد القبور وفي يده قربة من الماء، انتابني شيئاً من الفضول بأن أطرح عليه بعض الأسئلة. لم يتحرج ذلك الرجل من أسألتي فأخذ يجيبني بمفرداته البسيطة عن كل سؤال.
اندهشت كثيراً عندما عرفت أن هذا الرجل يقوم بزيارة كفيله الذي فارق الحياة لسنوات، هي بمقياس الأجنبي عمرًا طويلًا قضاه بعيدًا عن أهله وذويه. إلا أنه ومنذ وفات كفيله وهو يداوم على زيارته أسبوعيًا وفاءً لما لقيه ذلك العامل من حسن معاملة وطيب معشر.
لكن القصة لم تنتهي عند هذا المشهد، فسألت الرجل «وهل خلّف كفيلك وراءه من أبناء؟.. لأني لم أصادف أحداً منهم في زياراتي المتركررة على هذا المكان!».. أجاب الرجل «له من الأبناء الكثير، لكنهم مشغولون بما تركه لهم والدهم من مال وأعمال «فرددت عليه» هل تريد أن تخبرني أن أولاده لا يأتون لزيارته حتى في أوقات أخرى من أيام الأسبوع!» أجاب الرجل بصوت منكسر ممزوج بالحزن والحسرة «يا سيدي أنا لا أعتقد أن أبناءه يمتلكون قلوبًا من لحم ودم كقلوبنا ولو كان الأمر كذلك لرأيتهم يحتفون بقبره كل جمعة كما كانوا يفعلون أيام حياته. لكن الرجل ذهب من هذه الدنيا وحصلوا هم على ما يريدون. لكني أقول والله يشهد، لو كان هذا أبي لقضيت معظم أوقاتي أدعو له بالمغفرة والرحمة» والكلام لذلك الآسيوي الوفي.
أما عن أولاده الذين نسوا أن لهم أبًا كدح وتعب حتى جمع لهم تلك الثروة لينعموا بها في الحل والترحال، باتوا يتحدثون عن أعمالهم وكأنها من صنع أيديهم. للأسف قد ضاعت آمال ذلك الأب فيهم، لأنه لم يعد محتاجاً لتنمية ذلك المال أو توسعة تلك الأعمال بقدر ماهو محتاج لولد يترحم عليه ويتصدق عنه ويحيي مجالس الذكر لروحه.
نعم هكذا وصل بنا الحال. أصبح الوفاء عند العامل الأجنبي يفوق أضعافاً مضاعفة مثيله عند الأبناء والأقارب. فبالأمس القريب كان الجميع يحتفون من حوله، واعتقد المسكين أنه سيوّرثُ أبناءً يذكرونه بالخير في كل حركة يقومون بها. ذهب هو وانفضوا من حوله، كل يبحث عن تركة ربما لم يعلم بها في حياة والده قد تجعله أكثر ثراءً من غيره. هذه هي الدنيا وعُبّادُها..!
هذا موقف واقعي من آلاف المواقف التي تنتظر من يرويها. فما أن تذهب إلى ذلك العالم الغريب وتتأمل حتى تشعر أن لكل واحد ضمته تلك الأرض رواية وقصة يريد أن يخبرها للأحياء. لكن الكلمات حيرى، تحتاج إلى من يتلقفها وينسجها في مفردات تتناسب ومفاهيم الناس الذين يعتقدون أنهم أحياء بمقاييسهم التي لم تعد صالحة للإستخدام الإنساني. الحياة لا تقاس بنبض قلب أو رمشة جفن، بقدر ماهي إحساس بقيمة الإنسان سواء كان حياً يرزق أو قد فارق هذا العالم إلى عالم الملكوت.
هذه صورة من أصدق معاني الوفاء، تلك الكلمة يتداولها الناس فيما بينهم، لكن عندما تبحث عنها كقيمة إنسانية سرعان ما تكتشف أنها قد تلاشت إلا من قليل.