آخر تحديث: 30 / 4 / 2025م - 12:54 ص

تلك الشخصية التي نريدها لفلذات أكبادنا

ياسين آل خليل

نحن كآباء وأمهات نريد لأبنائنا أن يكبروا ليكونوا مواطنين صالحين ومسؤولين، نريد لهم أن يشعروا ويفكروا ويتصرفوا باحترام مع أنفسهم والآخرين. باختصار نريد لهم تلك الشخصية القوية التي تميزهم وتؤهلهم لمواجهة هذا العالم المتناقض ضمن هذه المعادلة البسيطة والصعبة في ذات الوقت. في الجانب الآخر كلنا نعلم ما سوف تؤول إليه حالهم اذا لم تتح لهم الفرصة أن يتعلموا تلك الركائز والقيم السليمة مبكرا ليخرجوا بتلك الشخصية التي نريدها لهم والتي ستضعهم في مواقع متقدمة من العزة والفخر في حياتهم العملية والإجتماعية.

نسمع كثيرا أن فلاناً لديه شخصية قوية، وذاك المتحدث يمتلك كاريزما لا يمتلكها غيره من المتحدثين. السؤال هو كيف حاز هؤلاء على تلك القدرات والمهارات دون غيرهم، وهل هي صفات وراثية، أم أن تلك القدرات زُرعت فيهم وتم تطويرها على مدى سنين وأيام حتى انتهوا على ما هم عليه من جودة.. في الفقرات التالية من مقالتي هذه سأعمل جاهدًا على تسليط الضوء على أهم مكونات تلك الشخصية والظروف الإجتماعية والبيئية الداعمة لنموها وتطورها.

نحن جميعًا لا يراودنا شك بأن هناك فوارق جسمية وجينية تجعل الواحد منا يختلف عن الآخر، وهذا قد يمنحه ميزة مضافة على غيره، إلا أن ذلك لا يجعله يتصدر الآخرين على منصات الإلقاء والحوار. لا بد وأن تكون هناك أشياء قد لا أراها أنا وأنت، لكنها دون شك تعمل تحت الكواليس بكل حرفية وإتقان حتى تظهر نتائجها بهذا المستوى الرائع والبديع. الشخصية القوية تتحدث عن ذاتها حتى وإن لم تتلفظ بكلمة واحدة وبغض النظر عن مكان تواجدها أو المناسبة التي أقيمت من أجلها. تلك الشخصية ليست مجرد شخصية محببة لدى الآخرين، بل هي لافتة للإنتباه وتكاد تأخذ العقول والقلوب ما أن تقترب أو توجه حديثها لأحد ما. قد يعتقد البعض أن شخصا بتلك المواصفات قد قدم إلى هذا العالم كاملًا مكملًا، إلا أن الحقيقة تخبرنا عكس ذلك تمامًا. فالمحيط والبيئة التي تربى فيها هذا الموهوب إضافة إلى الكثير من التدريب والصقل، هي المحركات الفاعلة التي لعبت دورًا قياديًّا في بلورة تلك الشخصية وأوصلتها إلى ما وصلت إليه.

آباءً وأمهات علينا واجب تربوي وتكليف شرعي بأن تكون تربيتنا لأبنائنا متضمنة لمهارات الإنضباط الذاتي ومقاومة لفعل الأشياء التي تؤذيهم كما تؤذي الآخرين. أما عن صفات الإنضباط التي أتحدث عنها بعينها فتنطوي على الوفاء بالوعود والإلتزامات. كما أن التعاليم الإسلامية والتي تدعونا إلى إرساء مبادئ التربية الحقة، تؤكد على ضرورة أن تكون رعايتنا لأبنائنا بعيدة عن النفاق الإجتماعي، وهي آفة تفتك بالمجتمع كغيرها من الآفات التي ابتلي الناس بها، ولا يمكن البناء عليها لما تحمله من ظلامية وبعد عن المصداقية والشفافية.

إحترام الذات واحدة من القيم الداعمة لبناء شخصية متوازنة قادرة على الخوض في بحار هذا العالم ومواكبة لأمواجه العاتية، كما أنها شديدة الحذر مما يخبأه في أعماقه من مفاجآت يصعب التنبؤ بها، وفي نفس الوقت هي مؤثرة في محيطها بعيدًا عن كل ما يُتداول من إهانات أو تصريحات قاسية ووقحة. علينا كآباء أن نكون مثالًا قابلًا للإقتداء وذلك من خلال تعاملنا مع أفراد الأسرة والأصدقاء بحب واحترام متبادل ومصداقية لا يشيبها نفاق أو مصالح شخصية. هذا بدوره يعبر ويكشف جانب التسامح الذي ينأى بنفسه عن النقد المستمر لكل ما ترصده الأعين وتسمعه الآذان. فالتعليقات السلبية والفشل في تحفيز الآخر عادة سيئة حان لها أن تتوقف وأن تُستبدل بفعل إيجابي يعكس مقدار تحضرنا ورقينا كبشر وذلك بإبداء شيئ من الإعجاب ولو كان من خلال التلفظ ولو بقليل من مفردات الثناء لأي إنجاز قد يستحق ذلك التصرف بدلا من التثبيط وتبريد الهمم.

نحن كمُربين ومدربين يقع على عاتقنا مسؤولية كبيرة تتمثل في قدرتنا على تنمية تلك الشخصية القوية في أبنائنا وذلك من خلال تعليمهم وتدريبهم على كيفية التفكير في إصدار الأحكام السليمة حول ماهو صواب أو خطأ، أو ماهو جيد أو سيئ. أنا أعلم تمام المعرفة بأن تلك المهمة ليست بالمهمة السهلة حتى يميزها البالغين، فكيف يكون وقعها على الطفل وهو الذي يجد صعوبة في إدراك الفرق بين أن يتصرف بشجاعة أو أن يتهور من خلال إطلاق العنان لعواطفه الجياشة والتي تجره لتأدية إجراءات قد يأسف عليها لاحقًا وبعد فوات الأوان. فإصدار الأحكام يتطلب مهارات يحتاج فيها المرء أن يستخدم المنطق لفرز المشاعر والحقائق والتفكير مليًا في عواقب الأفعال قبل أن يصدر حكمًا نهائيًا فيها. فمساعدة أبنائنا على تطوير عاداتهم في تبني المصداقية والمسؤولية وفي احترام الذات، لأمر في غاية الأهمية ما سيمكنهم من رؤية عيوب أي مسألة كانت، والوصول إلى الإستنتاج الصحيح حول ما يجب فعله. وهذا من أهم عناصر مقومات الشخصية التي نرنوا جميعًا ونتطلع أن نوجدها في أبنائنا.

الكارزميون في شخصياتهم لهم مواصفاتهم الخاصة بهم، وأولها تلك الحيوية المتوقدة والدائمة والتي تشعل الحياة بالحماس لمجرد تناولهم لموضوع أو فكرة ما. كما أنهم يشعروك ولأول وهلة بأنهم يمتلكون القدرة على التحكم في العالم من حولهم، فلديهم الثقة والمعرفة للتأثير على الآخرين وتوجيههم إلى الوجهة التي يريدونها. تلك المواصفات تؤهلهم لأن يتبوؤا مناصب قيادية وأن يحققوا نجاحات باهرة وملفتة للرأي العام المحيط بهم على اختلاف قدراته وتوجهاته.

الشخصية الكاريزماتية عندما تتحدث تشعرك بأنك الوحيد على هذا الكوكب وبأنك خاص وجدير بالإهتمام فلا تمتلك إلا أن تذوب فيها وتستسلم لها. فهي تشعلك حماسًا في حين وتسترخيك حينًا آخر؛ وهي تضحكك كما هي تبكيك متى وأنّا شاءت. تلك الشخصية تمتلك سلطة خفية تأخذ من يتفاعل معها إلى أبعد حدود الطاعة لامتلاكها مفاتيح التأثير من دفئ المعاملة وتكريس الذات بالحضور والتواجد الذهني والروحي مع الجمهور وتداخلاته وتفاعلاته الى أبعد حد ممكن. هذا ما تفعله تلك الشخصية اذا امتلكت مفاتيح التأثير وحازت بجدارة على المقومات الأساسية التي تجعل منها دون منازع القوة الجاذبة واللاعب الرئيس.

فهل نحن اليوم بحاجة الى تلك الشخصية أكثر من أي وقت مضى، وهل بات عصرنا أشد إلحاحًا وشغفًا إلى تبنيها تماشيًا مع ما تفرضه علينا متطلبات العصر من تحديات توجب أن نكون قياديين وعلى درجة كبيرة من التميز والإبداع. نعم وبكل تأكيد، ظروف الحياة الصعبة مضافًا إليها إصرارنا نحن كبشر على أن نكون الأفضل أملت علينا أن نتقمص ما يمكن أن نطلق عليه بالشخصية النافذة والعابرة للقلوب والعقول. نعم هي تلك الشخصية التي طالما عشقناها وبتنا نريدها لفلذات أكبادنا، هدية منا إليهم، فهل سيتقبلوها بفرح عندما يتيقنوا أنها الهدية الأثمن. وكيف لا تكون كذلك وهي مهداة إلى فلذات الأكباد وهم أمل المستقبل بل المستقبل المأمول بحضورهم الأقوى.