آخر تحديث: 30 / 4 / 2025م - 12:54 ص

عميد العارفين

ياسين آل خليل

كم هو رائع أن يكون الإنسان متحدثاً بارعاً يجيد فنون الحديث ويديرها بثقة وحرفية ودراية.   وكم يكون الإنسان بديع الجمال عندما يكون لديه فهم ومعرفة واطلاع واسع في مختلف العلوم والآداب والثقافات بالإضافة إلى إحاطته بكم وافر من مهارات الحياة بتنوعها.  كل ذلك جدير بأن يُمَكن المرء من أن يتداخل ويتواصل مع مختلف أفراد المجتمع على تنوع ثقافاتهم ودرجاتهم العلمية بيسر وأريحية.   

وكم هو سيئ الحظ ذلك الذي يضع نفسه في مواقع لا يحسد عليها ويحسب أنه (عميد العارفين) فيتحدث في أمور كثيرة وهو يعلم أن معرفته لا ترقى لأن ينصت لها المستمع لدقائق فما بالك لو كانت لساعات متواصلة.  المستمع عندما يجلس في مكان ما لينصت الى متحدث أو أكثر فإنه يتوقع من ذلك المتحدث أن يلامس عقله وقلبه، وأن يتعرف ويلتمس حاجتة بل حاجة كل مستمع فلا ينتهي إلا وقد انتاب كلٌ من الحضور شيئا من ذلك الحديث.  وهذا ما يجب أن يصبو إليه كل متحدث قبل أن ينطق بكلمة، وهو أن يفكر ويتفكر فيما سيقول قبل أن ينزلق ويتعثر وربما أكثر فيتبعثر.

إذا ضاق صدرك يوماً وخطر على بالك ان تضحك فما عليك الا أن تكون من بين ذلك الحضور الذي يرعى ويحتضن (عميد العارفين) حتى ينالك  شيئ من التهريج الا مسؤول من قبل معتوه يعتقد أنه يفقه ما يقول أو يقول ما يفقه ولو عرف ما يدور في عقول مستمعيه لبكى حاله وصمت فيما تبقى له من عمره المديد.

(رحم الله امرء عرف قدر نفسه)، لا أحد يقول أن أمثال (عميد العارفين) هذا يجب أن لا يتفوهوا بكلمة واحدة إلا أنه أولى لهذه الجوقة من البشر أن ينصتوا أكثر مما يتكلموا حتى لا يكون الخطأ سجيتهم أينما حلت ركائبهم.  فتصدرهم للمجالس والدواوين واجترارهم لمصطلحات بالكاد يجيدون نطقها، واستهلاكهم لها في غير وقتها يحط من أحاديثهم ويجعلها دونما قيمة تذكر.  الأحاديث المرتجلة عندما تصدر من أفراد غير متمرسين لهذه الصناعة إن صح التعبير لا يمكن بأي حال أن تُهضم حتى ممن لم تطأ أرجلهم دور العلم لتفاهتها وفقدانها لأبسط القيم الأدبية والعلمية.  

أما من جانب تواجد أمثال هذا المعتوه في محافل المثقفين ومجالسهم فربما كان من قبيل الترفيه الذي أصبح عنصرا مطلوباً يلجأ إليه بعض عمداء المجالس والدواوين لكسر الروتين والمألوف من القول وإضفاء شيئ من الفكاهة لإنعاش روح المرح تحت قبب مجالس النقاش ودواوينها. 

لنرجع من جديد إلى (عميد العارفين) هذا الذي يحشر أنفه في كل زاوية شاءت تعنيه أو لاتعنيه.  فعلى كثرة الضربات التي تنزل عليه من حيث لا يحتسب إلا أنه قلّ ما يتعلم منها.  فهذا الإنسان لديه شراهة في التحدّث وإن كان في شيء يجهله البتة.  فتراه يتحدث عن الحكمة والعقلانيه لكنه لا يفهم مضامينها فلهذا هو ينحدر بنفسه شيئا فشيئا إلى تلك الرمال الوعرة التي يصر على التحرك فيها حتى وإن أوشك أن يغوص في أوحالها إلى مواطن اللاعودة.

ليت (عميد العارفين) هذا يفقه كم هو مسكين ومضحك ومثير للشفقة.  فمرة هو سياسي يتحدَّث بجرأة (كسنجر) ومرة أخرى هو رجل الإقتصاد الذي يأتيك بما لم يأتِ به (آدم سميث).  شطحاته تذهب أبعد من ذلك فهو يتحدث في الهندسة وكأنه (جون سميتون) ويبدي نصائحه في الطب البديل وكأنك أمام (بندكت لست) الأب الروحي للطب التكميلي.  لكن أين الثرى من الثريا.  

(عميد العارفين) هذا لا تتوقف طموحاته عند حد فهو سباك وميكانيكي وطباخ وكهربائي، بل هو كل شيئ في واحد..  لا ينتهي الأمر عند ذلك الحد وكفى فهو يفهم في علم الرجال بل حتى وفي شؤون النساء فيتحدث عن الموضة والأزياء والماكياج وكيف للمرأة أن تحافظ على أناقتها ورونقها.  وأنا أقول بلسان ذلك الشاعر : 

يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ
هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ


مع (عميد العارفين) لا تحمل هم الإجابة على أي من الأسئلة ولو كانت تحمل طابع الخصوصية، فكل الأجوبة حاضرة لديه بل على طرف لسانه.  موقف صعب لا يحتمل النفاق أو المباركة أو الإشادة، لأن هناك حدود يمكن للأفراد أن يتغاضوا عنها، لكن ما أن يصل التمادي إلى أن يلبس أخينا (عميد العارفين) جميع القبعات وفي آن واحد ويتحدث بألسنة الغير وكأن لديه وكالة عامة فهذا مالا تتحمله السموات والأرض.

كلمة أخيرة أوجهها إلى كل من يحمل مواصفات وطباع (عميد العارفين)، المعرفة تتطلب الكثير من الصبر والبحث والتدريب والقدرة على الطرح بالدليل والمصدر لا أن تُرتجل الدروس والمواعظ والإفتاءات كما يفعل صديقنا الذي يعتقد في نفسه (غاليليو غاليلي) زمانه ولا أقل من (جابر بن حيّان) ذلك الصوفي الزاهد و (أبو الكيمياء).   كن واضح الرؤية والملامح ملماً بما تريد التحدث فيه وإلا فالصمت لك أفضل.  لأنك بالصمت تحفظ ماء الوجه..  واعلم سيدي بأن الرجال صناديق مقفلة وبفتحها يُعرف محتواها.  فاعمل على أن لا يكون محتواك فارغاً.