البحث العلمي الطريق الأمثل للتأسيس المعرفي
«العلوم في كينونتها تشمل مواجهة الغباء المطلق لدينا»، جملة قالها أستاذ وباحث جامعي ضمن حديث مرتجل موجهاً لمجموعة من طلاب الدراسات العليا ولفيف من الحضور كنت أنا من بينهم. تلك الجملة أثارت بعض التساؤلات لدى الحضور فأتت الإجابة على النحو التالي:
«واحدة من الأسباب التي جعلتنا نحب العلوم في المرحلة الثانوية ومن بعدها في الجامعة هو أننا كنا جيدين في ذلك ونمتلك العقلية القادرة على الفهم. لكن لا يمكن أن يكون السبب الوحيد لتعلقنا بالعلوم هو الإنبهار في فهم العالم المادي وحاجتنا العاطفية لاكتشاف أشياء جديدة والبحث في متاهاتها. فخلال دراستنا الثانوية ومن بعدها الجامعية عندما نتحدث عن التخصصات العلمية هذا يعني أخذ دورات واجتيازها بنجاح مما يعني تصويب الإجابات في جميع الإختبارات، بعدها يمكننا أن نفخر وأن نشعر بأننا نمتلك تلك العقلية الذكية» والكلام للأستاذ المحاضر
واصل الأستاذ حديثه بالتطرق إلى رسالة الدكتوراة، وأنها مشروع بحثي مختلف تماماً عن الدراسات التي مرّ عليها الطلاب طوال حياتهم الدراسية السابقة. أخذ بعدها التحدث عن نفسه عندما كان يُحضر للدراسات العليا وكيف أنها كانت مهمة شاقة. دخل بعدها إلى تفاصيل تلك العملية المضنية وكيف كان يخوض تلك المعركة بما فيها من تأطير المسائل التي من شأنها أن تؤدي إلى اكتشافات هامة وتصاميم وتفاسير من شأنها فك رموز التجربة البحثية للوصول إلى استنتاجات مقنعة تبشر بالنجاح والذي هو ليس بالأمر السهل.
تابع المحاضر حديثه عن تجربته الخاصة في مشروع الدكتوراة وكيف أنه كان مشروعاً متعدد التخصصات. وتطرق إلى المشاكل التي كانت تواجهه أثناء عملية البحث وكيف أنه كان كثير المضايقة لأعضاء هيئة التدريس ليحصل منهم على التوجيهات التي من شأنها تذليل تلك الصعاب. وأنه كان يتغابى في كثير من الأحيان لاستفزاز أساتذته عسى أن يبوحوا له بما كان يعتقد أنه سيكون له عوناً في مشروعه البحثي.
أمر آخر في غاية الأهمية قد أوضحه ذلك الأستاذ في تلك الأمسية وهو النظرة إلى نطاق الأشياء وكيف أنها تختلف بين شخص وآخر. ففي الوقت الذي يرى باحث بأن مسألة ما واسعة وتتطلب الكثير من الجهد والوقت، يرى آخر بأنها مسألة لا نهاية لها. هذا الإدراك يوصلنا إلى مفهوم تحرري بأنه مهما وصل بنا العلم من قدرات هي في أعين الكثير جبارة، إلا أننا سرعان ما نكتشف أنه مازال أمامنا الكثير من العمل البحثي وأننا أمام جهل لامتناهي.
بعدها ألقى الضوء على عملية التحول التي شهدها العالم في مفهوم المعرفة وكيفية إنتاجها واستخدامها وذلك جراء خضوعها تحت تأثير دائم من صناع القرار. انتقل من بعدها إلى توضيح أنه ليس من قبيل الصدفة أن تكون قضية تأسيس وإنتاج المعرفة هي جوهر النقاشات التي أجريت على مدى العقود الماضية والتي استمرت ولم تنتهي إلى هذه اللحظة. تلك النقاشات أثارت ومازالت تثير الكثير من الجدل حول دور الجامعات في تعزيز المعرفة وتطويرها لمواجهة التحديات المستقبلية. وبين أن جزءاً كبيرا من هذه المسؤولية يقع على عاتق التعليم العالي وما يحويه من طلاب وأساتذة وباحثين وإداريين وممولين، لأنهم المحرك والعقل المدبر والمبتكر والمولد للمعرفة المرتبطة ارتباطا وثيقا بعملية البحث العلمي.
أخيراً وقبل أن أختم مقالتي هذه لا بد أن ألقي شيئا من الضوء على ذلك «الغباء المطلق» الذي تحدث عنه المحاضر. فبكل بساطة لم يكن بالتأكيد يعني ذلك الغباء الذي أعرفه أنا وأنت ولو كان كذلك لتحول ذلك الجمع الذي تعج به القاعة، وهم خلاصة ما أنجبته مؤسسات تعليمية من مختلف البلدان، الى مجموعة من البلهاء بما فيهم ذلك الأستاذ النجيب. إلا أن ما يقصده ليس ذلك «الغباء النسبي» بل ذلك الغباء المطلق الذي يدفعنا لمعرفة المجهول.
نتمنى أن يكون ذلك «الغباء المطلق» دافعا لنا نحن أيضا على أن نبحث ليلا ونهارا لنتوصل لحلول تؤسس لإيجاد البنية التحتية القابلة للاستثمار في مشاريع تشجع مؤسساتنا العلمية للخوض والإنغماس في بحار البحث العلمي وهو الطريق الأمثل للتأسيس المعرفي.