المثقف وواقعه المتناقض
متحدث بارع ومثقف من الطراز الأول، يتحدث فينصت الآخرين، لأنه ليس كغيره من المتحدثين، كم هائل من المخزون المعرفي وعمق في المعلومة بتنوعها الأدبي والإجتماعي والعلمي والفلسفي، قدرات غير عادية في استحضار الدليل المقنع، إلمام بالأحداث وحذاقة تجعله قادراً على التأثير والخوض في شتى المواضيع بحرفية وذكاء.
إذا كنت لا تعرفه تحسبه مستشاراً في مؤسسة ثقافية عريقة، يأخذك في الحديث إلى عوالم لم تشهدها من قبل فلا تملك إلا أن تقول «ما شاء الله».. شخصية كهذه لا يمكنها أن تمر دون أن يتسائل المرء عنها ليتعرف عليها أكثر، فتأتي الإجابة كالصاعقة؛ «لا تنبهر كثيراً بما سمعت، ولا يأخذك الحديث بعيداً لترسم صورة مبالغ فيها عن تلك الشخصية البانورامية الأبعاد حتى لا تنصدم في قادم الأيام».
ذلك الرأي لم يوصلني لقناعة تامة فتناولت الحديث مع أطراف أخرى قريبة من تلك الشخصية فجاءت الإجابات متواترة؛ فمنهم من قال «أن هذا الرجل مهووس بتحصيل المعلومة»، ومنهم من وضح «أنه ماكنة بحث ننشدها عندما نريد أن نتزود بالجديد من المعلومات ليس إلا»، وآخرين قالوا «أنه إنسان رائع لو يطبق بعضاً من تلك المعلومات».. توقفت عند هذا الحد وقلت لنفسي «إنسان بهذه المواصفات من الطبيعي أن يكون له خصوم في زمن تكثر فيه الغيرة والحسد والنميمة وغيرها من أمراض هذا العصر».. فتعوذت بالله من الشيطان وأقفلت ذلك الملف.
وفي يوم من الأيام كنت مدعواً لحضور وجبة عشاء، وكان من بين المدعوين لفيف من المثقفين وأصحاب الرأي، ومن المصادفة وجود ذلك الشخص الموهوب ضمن ذلك التجمُّع. تناولنا الوجبة وبعدها أخذ الحضور يتبادلون أطراف الحديث، وما هي إلا دقائق معدودة حتى تمكن ذلك الشخص المعني من أن يبرز من بين ذلك الجمع وكأنه يريد أن يقول «ها أنا ذا.. هل من مبارز؟».
هذه المرة صادفت أن كنت جالساً بالقرب من رجل يربطه نسب بالمتحدث ويعرفه تمام المعرفة؛ لم يتمكن ذلك الرجل من الصمت طويلاً قبل أن بدأ بالتحدث معي وبصوت منخفض «لا تجعل ذلك الرجل يأخذ عقلك بعيداً، فكل تلك المعلومات التي تسمعها لا تتعدى كونها قراءات حفظها المتحدث عن ظهر قلب، وتلك القدرة مشهودة له، فهو يمتلك تلك الملكة وغيرها التي تأهله لان يتصدر هذا المجلس وغيره من المجالس ليفرغ ما في جعبته للحضور، وهذا كله من باب لفت الأنظار وإعطاء الآخرين تلك الصورة المشرقة عن شخصيته والمخالفة للواقع الذي يعيشه.. أما ما يؤخذ على هذا المثقف هو أن ممارساته لتلك الثقافات لا تتعدى الصفر على الشمال إن لم تكن أسوأ»..
«فالديمقراطية التي يتشدق بها تتحول إلى ديكتاتورية همجية لمجرد فتحه باب منزله، فهو الآمر والناهي، والكلمة الأولى والأخيرة له هو، أما العدالة التي ينشدها ويتحدث عنها مطولا وبإسلوب يعجز الحقوقيون المتمرسون من المناداة إليها؛ فهو أول من يفترض أن يدعو نفسه لممارستها في بيته وفي تلك الشركة التي يرأس أحد دوائرها والتي يعاني موظفوها من أبشع أنواع الظلم والتمييز وهدر الحقوق؛ أما من يصطفون حوله وينحنون له ويجلونه في حضوره وغيابه فهم ممن يتصيدون الفرص للإرتقاء وظيفيا لا لقدرات يمتازون بها على غيرهم بل بجهود وطاقات الآخرين ممن أجحفوهم حقوقهم وتسلقوا على أكتافهم، وهم يعلمون في دواخلهم وقرار أنفسهم أنهم لن يكون بإمكانهم إشباع بطونهم لو كانوا في سوق عمل حر متحرر من الموروث المجتمعي المتخلف، وذلك الذي لا تستشري فيه البطالة المقنعة والطائفية والواسطة وغيرها من العادات التي ليس لها صلة بمتطلبات العمل من قريب أو بعيد والحديث يطول ويطول..» هذه آخر كلمات قالها الرجل، تأوه من بعدها وصمت.
هنا لابد من أن أقف وقفة المذهول لما سمعته أذني في زمن كم نحن بحاجة إلى من يمتلك روح الكلمة الحق وفي نفس الوقت إلى أنفس تأبى المساومة على المبادئ والقيم ولو كان في التمسك بها مضاضة للبعض إلا أن تلك الأوجاع لا تلبث أن تتحول إلى بلسم يداوي كل جراحات الماضي. كما أني أتعجب كم نحن ننخدع في الكثير من الأحيان عندما نستمع لهذا المتحدث أو نقرأ لذلك الكاتب؛ فنرسم تلك الصورة المغلوطة عن ذلك الفرد ونتوهم بأن شخصاً بتلك الثقافة لا شك وأن يمارس حياة الملائكة ويغيب عنا أمراً في غاية الأهمية؛ أن الثقافة بمفهومها المتداول بين الناس هي مفهوم قاصر إذا لم تنعكس تلك الثقافة على سلوك الفرد وحياته اليومية في المنزل والشارع والعمل.
فالثقافة والقدرة على مخاطبة الآخرين ومحاورتهم ببراعة وفي مختلف المواضيع، لهي ميزات وملكات ومهارات فردية حميدة، يحلم أي منا الفوز ولو بواحدة منها؛ إلا أن تطبيق كل تلك الإبداعات من دون شك هو «مربط الفرس» لأن تطبيقها يتطلب وقفة شجاع يفعل مايقول ولا يقول مالا يفعل.