آخر تحديث: 30 / 4 / 2025م - 12:54 ص

الملف الصحي.. ما يقال وما لا يقال

ياسين آل خليل

حوار مع موظف استقبال في مشفى العناية الإلهية دام لأكثر من نصف ساعة حول موضوع قد لا يعير له الكثير من الناس تلك الأهمية، لا لجهل فيهم أو عدم دراية ولكن هي العادات والتقاليد وعدم شرعنة القضايا صغيرها وكبيرها، وما هو لائق الحديث فيه مع الناس أو غير لائق، كل ذلك كفيل بأن يجعل من الأشياء مباحة للتداول اللفظي بين الأفراد والجماعات أو غير مباحة. مقالتي اليوم تتمحور حول الملف الصحي للفرد، وما لذلك الملف من أهمية فائقة وحساسية قد تفوق غيرها من الملفات الشخصية.

ذلك الحوار بالطبع لم يتم في أي بلد من بلدان عالمنا الثالث، لأن ملفا كالملف الصحي ليس له تلك الحرمة لا عند المؤسسة الصحية ولا عند المريض نفسه ولا الفرد العادي في المجتمع، حتى تتجسد له تلك الأهمية، وحتى أثبت لك عزيزي القارئ مصداقية حديثي هذا، ما عليك الا أن تفتح أذنيك وتصغي إلى أحاديث الناس من حولك لتكتشف بعد برهة أن ذلك الملف مباح بمجمل مايحويه من معلومات على دقة حساسيتها، وأن التنقيب بين صفحاته عن الصغيرة والكبيرة لهو أسهل من «شربة ماء».

تلتقي بصديق لك لم تره لفترة من الزمن فتسأله عن حاله بعد التحية، فلا تسمع كلمة «الحمد لله» وكفى، ولو من باب التصنع بالايمان، بأن الله هو المعافي الذي ينبغي التوجه اليه في الملمات. إلا أنه في واقع الحال يتحول ذلك المستمع بقدرة قادر إلى استشاري ملم بجميع التخصصات الطبية، وأن عليه الإصغاء لمريضه هذا حتي ينتهي من سرد جميع الأمراض التي يعاني منها والأطباء الذين زارهم في كل تلك الفترة التي لم يره فيها ذلك المستمع، والأدوية التي يأخذها، تلك التي استفاد منها، والأخرى التي لم تنفعه، وتلك التي زادته مرضاً على مرض حسب تشخيصه هو، والعياذ بالله. وليته يكتفي بالحديث عن نفسه وما يعانيه بل ينتقل بكل أريحية إلى جميع أفراد أسرته لينبش صفحات ملفاتهم صفحة صفحة لمجرد أن تسأله عن حال أي منهم.

ذلك الشخص وغيره ممن تنطبق عليهم هذه المواصفات يعلمون علم اليقين بأنك أو أي مستمع آخر لا تمتهنون الطب وأنكم لا حول ولا قوة لكم في أن تخففوا من تلك الآلام والأمراض التي يعاني منها، فلماذا إذن كل ذلك التساهل بأهمية تلك المعلومات وأنها خاصة بمكان لا يصح لنا تداولها مع أي كان في السوق، والشارع والديوانية وكأن شيئا لم يكن. الملف الصحي اليوم تهتك خصوصيته صباحا ومساء، بل ربما تكون أنت الآخر ملاماً إن لم تفتح ملفك وتستبيح حرمته حتى لا تكون شاذاً عن المألوف.

لماذا كل شيئ عندنا أصبح عاديا في أن نتناوله مع الآخرين، ألا يعد ذلك تعدياً صريحاً بل إسرافاً وترفاً غير مبرر. فهل وصل بنا الحال أن نفتح جميع ملفاتنا ونتحدث عن حيثياتها وبالتفصيل الممل بوعي وغير وعي ومع أي كان، جازمين بأن ذلك الشخص الذي نتحدث معه أمين السر الذي يكتم كل معلومة ويحتفظ بها لنفسه، أو أنه كغيره من الأفراد الذين ينتهزون الفرصة ليفرغوا ما جمعوا من عندك لأناس آخرين قد لا يعلمون عنك شيئا..

مشفى العناية الإلهية هو أحد المشافي في الولايات المتحدة الأمريكية الذي قمت بزيارته في وقت ليس ببعيد، فدار ذلك الحديث بيني وبين موظف الاستقبال عن أهمية الملف الصحي. وقد فوجئت وقتها من كثرة الأوراق والتعهدات التي جرى توقيعي عليها وأن ذلك الملف سيكون في «الحفظ والصون» كما أنه لن يتمكن أحد من فك أسراره إلا بإذن موثق مني شخصياً. كل تلك الأوراق التي جري توقيعها من قبلي تخبرني الكثير عن أهمية ذلك الملف وما يحويه من معلومات قد تكون شديدة الخطورة بمكان يجعلهم يحتاطون مسبقا حتى لا يقعوا في خطأ قد يجر ذلك المشفى للمحاكم ومن ثم الى التجريم، ما أن يتبين تسرب بعض معلومات ذلك الملف دون إذن من صاحبه.

السؤال هو متى سيأتي ذلك اليوم الذي نضع فيه قيمة لكثير من ملفاتنا الشخصية، وأن نتعلم من تجاربنا وتجارب الآخرين بأن هناك «ما يقال وما لا يقال».