آخر تحديث: 28 / 12 / 2025م - 2:41 ص

صديقي والجدل الثقافي

زكي البحارنة

فاجأني صديقي الحصيف «أبو رضوان» ونحن نحتسي الشاي ذات مساء، موجهاً سؤالاً محدداً: هل ترى المداراة في طرح الأفكار ووجهات النظر، وبالأخص في البعدين الثقافي والاجتماعي؟ أم أن الصواب هو الطرح الصريح والصادم؟ توقفت هنيهة لأستجمع فكرة مفيدة للإجابة على سؤال له أكثر من مغزى، لا يبدو أن إجابة مختزلة تفي بما يرمي إليه سؤال صديقي الذكي.

هنا، وقبل استكمال الجواب، من المناسب إلقاء إطلالة على مفهوم التحيز في قضايا الرأي ودوره في صناعة وجهات النظر؛ فالأمر الطبيعي هو أن يبدي الإنسان رأيه في أي مسألة له فيها علم أو رأي. فلماذا يحتاج صديقي لإجابة تتعلق بالأسلوب أو بالغرض من إبداء الرأي؟ فالانحياز إلى رؤية معينة أو مذهب فكري أو تفسير محدد لأمر ما ليس هو المشكلة، وإنما كيف تشكل هذا الانحياز، وكيف انبنى كقناعة تدفع بالإنسان أحياناً إلى التصادم والخلاف الحاد مع الرؤية الأخرى؟

علماء النفس صنفوا أنواعاً وعناوين متعددة للتحيز المعرفي، من بينها «الانحياز التأكيدي»، ويقصد به الميل المعرفي الذي يتضمن البحث عن معلومات تؤكد معتقدات الفرد وتفضيلاته المعرفة مسبقاً، وبعبارة أكثر وضوحاً هو الاهتمام بالمعلومات التي تسند معلوماتنا السابقة وتجاهل المعلومات التي تتحداها، وهذا ما يفسر ظاهرة وجود أشخاص أو مجاميع تتنكر لحقائق ومسائل يدعمها البرهان أو الواقع، واتخاذ موقف منحاز ضدها إما لمصلحة ذاتية، أو بدافع خلفيات مسبقة، أو غير ذلك من دواعي القناعات المشوهة.

عالم النفس بيتر واسون «1924-2003» قام بعدة تجارب عرفت «بمهمة واسون لاكتشاف القواعد»، توصل من خلالها إلى أن معظم الناس يميلون إلى البحث عن معلومات أو آراء تؤكد معلوماتهم الحالية، وهي حالة ذهنية تلازم عقل الإنسان؛ إذا اتخذ اتجاهاً أو موقفاً معيناً فإنه يحاول البقاء في الاتجاه ذاته كلما واجه اتجاهاً مغايراً، سواء أكان اتجاهه خاطئاً أو صائباً. وهذه الحالة تشمل حتى من يعتقد في نفسه الموضوعية وتوخي الحقيقة، وليس خافياً أن نرى معظم الناس تستعين بما توفره شبكة الإنترنت من معلومات لتأكيد ما لديهم من توجه أو موقف بشأن مسألة ما، وعلى مختلف المسارات والقضايا، أكانت دينية، علمية، فلسفية، تاريخية إلخ. وبذلك يؤكد علماء النفس بأن متلازمة «الانحياز التأكيدي»، كما أن لها سلبيات فجة، فلها إيجابيات في الجهة الأخرى، كالمواقف التي تدعم مساندة حالات إنسانية أو آراء واضحة البرهان في مقابل من يتحيز ضدها.

من وحي مفهوم «التحيز التأكيدي» تداولت مع صديقي الذكي جواباً لسؤاله الآنف في المقدمة، بأن الأمر الطبيعي هو إبداء وجهات النظر دون تكلف، بيد أن بعض قضايا النقاش تتطلب حكمة في الطرح، والطرح الحكيم هو خليط فريد من العلم والذكاء والأخلاقيات والاستيعاب الجيد للرأي الآخر، وذلك ما قد يضمن طرح رؤية أو موقف أقرب للموضوعية حول محور النقاش، إلى جانب أن يتمتع المتحدث بصفة التواضع القائمة على قاعدة «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». ذلك أن الإنسان مهما كانت حصيلته من العلم والإدراك فهو عرضة للوقوع في أخطاء لا شعورية، ناتجة من عوامل متعددة كالميول النفسية والعواطف والتوجه الفكري ومفاهيم وأحكام سابقة لم تتم مراجعتها، أو بسبب تلقي معلومات أو أفكار غير دقيقة، إلى غيرها من العوامل؛ لذا من الأهمية بمكان أن تبقى جلسات النقاش والمحاورة تحت سقف التكامل والتقارب، وليس التقاذف والتباين والابتعاد عن احتكار الحق والحقيقة، حتى تكون ذات أثر إيجابي في نضوج الوعي الجمعي، وتمتين العلاقات الصحية بين الأفراد دون شعور بالحاجة إلى التصادم مع الآخر المختلف، ولا سيما في المجتمع الواحد.

وافقني صديقي بأن تلك الخلاصة هي التي تحدد وجاهة طرح الرأي بأسلوب المداراة، أو بصورة من صور الطرح الحاد، مع التأكيد بأن التباين العقلاني في الآراء ظاهرة صحية ومؤشر على التفكير الواعي المتقدم، بيد أن فساد الظاهرة يكمن في أحد أمرين: إما الانحياز الأناني لمصلحة ذاتية، أو بما يسمى «متلازمة التكبر»، أي شعور الفرد بأنه كلي العلم والمعرفة، أو بكلا الأمرين معاً، بما يؤدي إلى مصادرة الرأي الآخر.