أوّل النظرة.. الانطباع الذي يقرر عامًا كاملًا بأثر من العيون
يدخل المعلم إلى الصف، فتبدو الثواني الأولى وكأنها مشهد مسرحي لا يتكرر. الطلاب لا ينشغلون بالمعادلات ولا بتوزيع الدروس، يلتقطون ما هو أعمق: وقع الخطوة على البلاط، حركة اليد مع الطباشير، انحناءة الرأس، وحتى طريقة فتح الحقيبة وكأنها صندوق أسرار. هي لحظة أقرب إلى ”النظرة الشرعية“ في حياتنا الاجتماعية، حيث يحاول كل طرف أن يقرأ الآخر من ملامح خاطفة، ويخرج بانطباع قد يرافقه عامًا كاملًا وربما أكثر.
أحدهم يسرّ لنفسه وهو يعدّل جلسته: ”يبدو أن أستاذنا جاد أكثر من اللازم… لا بد أنه من النوع الذي يحصي علينا الأنفاس.“، وآخر يتأمل ابتسامة خفيفة في زاوية الوجه فيقول في سرّه: ”ربما يوزّع النكات أكثر من الواجبات.“، وثالث يراقب طريقة وقوفه أمام السبورة فيعلّق في داخله: ”لو كان في برنامج للمذيعين، لفاز بأعلى الأصوات.“ حتى ربطة الحذاء لم تسلم؛ فطالب في الصف الأخير قرر أن صلابة شخصية المعلم واضحة لأنه شدّ رباطها أكثر من مرة قبل أن يبدأ الكلام.
المعلم هنا يظن أن قيمته تقاس بكمية المعلومات التي يحفظها، غير أن طلابه قد حسموا رأيهم قبل أن ينطق بكلمة. إنهم يستقبلون حضوره أولًا، لا شرحه. فالنبرة التي يختارها صوته قد تكون أقوى من أي قانون فيزيائي، والابتسامة التي يوزعها بصدق أعمق أثرًا من عشر صفحات محفوظة.
ما يحدث أن هذه التفاصيل الصغيرة، إذا صيغت بعفوية ودفء، تحوّل قاعة الصف إلى فضاء إنساني حي. الطالب يشعر أن معلمه لم يأتِ ليملأ الدفاتر بالواجبات، علاوة على منحه شعورًا بالاحترام والطمأنينة. عندها يتحول الإصغاء إلى رغبة، لا إلى واجب. وقد ينسى الطالب القاعدة النحوية أو قانون الجبر أو معادلة كيميائية، لكنه لا ينسى يومًا كيف جعله معلمه يضحك أو كيف أشعره أنه إنسان له قيمة.
ولعل الفكاهة في الموقف تُكمل المشهد: عطسة حادثة في الدقائق الأولى قد تتحول في ذهن طالب إلى ”دليل على إنسانية المعلم“، بينما يراها آخر علامة أنه سيغيب كثيرًا بحجة المرض. هكذا تُبنى الانطباعات بسرعة، حتى إن بعض الطلاب يكتبون في سرّهم: ”قررنا مصيرك قبل أن تكتب أول كلمة يا أستاذ.“
المعلم الذي يفهم هذه اللعبة الخفية يدرك أن التعليم ليس حشد معلومات، وإنما إشعال جذوة في القلوب. فالأثر يبدأ قبل الدرس، ويظل حيًا بعده. والطلاب لا يتذكرون دائمًا ما قيل، لكنهم يتذكرون جيدًا كيف ضحكوا، وكيف شعروا بالأمان، وكيف فتح المعلم لهم بابًا من إنسانيته قبل أن يفتح الكتاب.
فأجمل دروس الحياة تبدأ من ابتسامة معلم، لا من أول صفحة في الكتاب كنظرة طلابية.