آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

إرنست كاسيرر والبحث عن معنى الإنسان

الشيخ زكي الميلاد * مجلة الفيصل

رأى المفكر الألماني إرنست كاسيرر «1874 - 1945 م» في بحثه الجاد عن معنى الإنسان، أن هناك أزمة حقيقية أصابت المعرفة الحديثة أفقدتها وحدة الاتجاه في النظر إلى مشكلة الإنسان، ناقدًا تشتت البحث في فروع المعرفة، إذ أصبح كل فريق من العلماء لاهوتيين وطبيعيين واجتماعيين وسيكولوجيين وبيولوجيين ينفذون إلى معالجة هذه المشكلة كل من زاويته الخاصة، مصوّرًا أن هذا التشتت أو التخاصم بين الأفكار لا يمثل مشكلة نظرية خطيرة فحسب، بل هو خطر كبير يهدد في حالة اتساعه الحياة الأخلاقية والحضارية.

استنادًا إلى هذه الإشكالية، قدر كاسيرر أن المفكر الألماني ماكس شيلر «1874 - 1928 م» كان من أول من تنبهوا لهذا الخطر، راجعًا إلى كتابه «مكانة الإنسان في الكون» الصادر سنة 1928 م، مستشهدًا بكلامه، ومظهرًا توافقًا معه، ناقلًا منه هذا النص: «ما كان الإنسان في فترة من فترات المعرفة الإنسانية كما هو اليوم في عصرنا مثار مشكلة لذاته؛ لقد أصبح لدينا أنثروبولوجيا علمية وأخرى فلسفية وثالثة لاهوتية، وما من واحد من هذه الفروع يعرف ما لدى الفرع الآخر، لذلك لم نعد نمتلك فكرة واضحة عن الإنسان، فإن ازدياد تكثر العلوم التي تنهمك في دراسة الإنسان قد زاد فكرتنا عن الإنسان فوضى وغموضًا بدلًا من أن يوضحها».

وبعدما عرض كاسيرر بإيجاز مختلف المناهج التي استخدمت في عصره بحثًا عن الإجابة لسؤال: ما الإنسان؟ وصل إلى المسألة التي ظل يحوم حولها، متسائلًا: هل هذه المناهج كافية وشاملة أم إن ثمة طريقة أخرى؟ وهل تبقى لدينا سبيل آخر نسلكه عدا طريق الاستبطان السيكولوجي والملاحظة والتجربة البيولوجية والبحث التاريخي؟ وسعيًا لمبتغاه حاول كاسيرر استكشاف سبيل آخر، متوصلًا إلى نظرية أفاض في بيانها وشرحها في كتابه الكبير الموسوم بعنوان «فلسفة الأشكال الرمزية» المكوّن من ثلاثة أجزاء، والصادر ما بين «1923 - 1929 م»، الكتاب الذي رأى فيه الدكتور زكي نجيب محمود «1905 - 1993 م» أنه مثَّل ذروة العبقرية الفلسفية كلها لكاسيرر، وعده كتابه العظيم.

هذه النظرية المقصودة رجع إليها كاسيرر مرة أخرى، مركزًا الحديث عنها، وجامعًا أشتاتها في كتابه «مقال في الإنسان.. مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنسانية»، صدر قبل وفاته، وكان آخر مؤلفاته. أراد منه كاسيرر أن يعبر عن أفكاره بوضوح وبساطة قدر استطاعته، منبهًا النقاد إلى أن ما كتبه في هذا الكتاب إنما هو شرح وتوضيح لنظريته أكثر مما هو تطبيق وإبراز لها، داعيًا من شاء أن يدرس المشكلات المعروضة في شكلها التحليلي الدقيق، إلى مراجعة كتابه «فلسفة الأشكال الرمزية».

وقد تحددت هذه النظرية لدى كاسيرر في أن الرمز هو سبيل التعرف إلى طبيعة الإنسان، مصححًا - بحسب قوله - حدّ الكلاسيكيين للإنسان وموسعًا منه، ناقدًا قول القدماء في حدّ الإنسان إنه حيوان ناطق، مفضلًا حدّ الإنسان بأنه حيوان ذو رموز، بدلًا من حدّه بالنطق أو العقل، مبينًا أننا إذا فعلنا ذلك نكون قد ميزنا اختلافه الخاص عمّا سواه، واستطعنا أن نفهم الطريق الجديدة المهيأة للإنسان، ويعني بها طريق المدنية.

وتأكيدًا لنظريته في التفارق بين الإنسان وسائر الكائنات الحيّة الأخرى، واستنادًا إلى علم البيولوجيا، توقف كاسيرر عند رأي أشار إليه عالم البيولوجيا الألماني يوهان فون يوكسكل «1864 - 1944 م» من أن كل كيان عضوي يمتلك جهازين: جهاز استقبال وجهاز تأثير، ولا بقاء للكيان نفسه إذا لم يتعاون الجهازان ويتوازنا، فبجهاز الاستقبال يتقبل النوع البيولوجي المؤثرات الخارجية، وبجهاز التأثير يستجيب لهذه المؤثرات، وهما حلقتان في سلسلة واحدة يسميها يوكسكل الدائرة الوظيفية في الحيوان. بناء على هذا الرأي تساءل كاسيرر قائلا: هل من الممكن أن نستغل هذه الخطة التي وضعها يوكسكل لنصف العالم الإنساني ونبين مشخصاته؟

من الواضح لدى كاسيرر أن هذا العالم الإنساني لا يشذ عن تلك القواعد البيولوجية التي تحكم حياة كل الكائنات العضوية، مضيفًا إلا أننا في العالم الإنساني نجد مميزًا جديدًا يبدو أنه علامة تفرق الحياة الإنسانية عما سواها، متوصلًا إلى أن لدى الإنسان حلقة ثالثة، مطلقًا عليها تسمية الجهاز الرمزي، وهذه الأداة الجديدة التي يملكها الإنسان وحده تحول الحياة الإنسانية كلها. لذا فإن الفكر الرمزي والسلوك الرمزي من أعظم الملامح المميزة للحياة الإنسانية، وكل التقدم الذي أحرزته الحضارة الإنسانية مبني عليهما، ومن ثم فإن الفكر الرمزي هو الذي يتغلب على القصور الذاتي الطبيعي لدى الإنسان، ويمنحه قدرة جديدة على أن يشكل العالم الإنساني من جديد وعلى الدوام.

ولمزيد من الضوء على خلفيات هذه النظرية، وعودًا إلى مرحلة ما قبلها، فقد كان كاسيرر كانتيًا محسوبًا على ما يعرف بالكانتية الجديدة، استوقفته مبكرًا فلسفة كانت «1728 - 1804 م»، وتابعها دراسة ومطالعة في مرحلته الجامعية، مظهرًا تعلقًا بها، وتعمقًا فيها، وتواصلًا معها. وفي طور آخر لاحظ كاسيرر أن فلسفة كانت خصوصًا في كتابه الشهير «نقد العقل الخالص»، قد ركزت بصورة رئيسة على الجوانب العقلية، وأظهرت الإنسان كما لو أنه كائن عقلي صرف، مختلف معها في هذه الناحية، وملتفت إلى الأبعاد الأخرى التي تظهر متجلية في حياة الإنسان وسلوكه، معتبرًا أن الإنسان لا يعيش بعقله فحسب، ولا يتأثر بعقله فقط، وإنما هناك جوانب أخرى لا بد من الالتفات إليها، ولا قوام لحياة الإنسان من دونها، ويظل يتأثر بها دومًا مثل: اللغة والفن والأسطورة والدين والتاريخ والعلم، التي تحاك منها - بحسب اصطلاحه - الشبكة الرمزية، ويعني بها النسيج المعقد للتجارب الإنسانية.

تكمن أهمية هذه المحاولة الفلسفية لكاسيرر، كونها جاءت ومثلت امتدادًا لفلسفة عظيمة الشأن في ساحة الفكر الأوروبي، هي فلسفة كانت، ولم تقف عند هذا الحد، بل أضافت إليها. ومن جهة أخرى أنها قدمت نظرية جديدة في تعريف الإنسان متفارقة عن بقية النظريات الأخرى القديمة والحديثة. ومن جهة ثالثة كونها محاولة لم تتسلط الأضواء عليها كثيرًا في الأدبيات العربية المعاصرة على الرغم جديتها وعمقها.

ومن ناحية التقويم، يسجل لهذه المحاولة أنها تنبهت إلى الأبعاد المفقودة في النظريات الأخرى التي صورت الإنسان من زاوية أحادية، إما بوصفة كائنًا ناطقًا كما في فلسفة أرسطو، أو كائنًا عقليًا كما في فلسفة كانت، أو كائنًا فطريًا كما في فلسفة جان جاك رسو «1712 - 1778 م». واعتنت هذه المحاولة بالأبعاد الأخرى مثل: اللغة والفن والأسطورة والدين والتاريخ والعلم، ونظرت إلى هذه الأبعاد بصورة مركبة وليس بصورة مفككة، وبوصفها تمثل شبكة رمزية لا يحسن استعمالها إلا الإنسان، وقدمت نسقًا تحليليًا موسعًا ومستفيضًا عن هذه الأبعاد، أبان عنها كاسيرر وشرحها في كتابه «فلسفة الأشكال الرمزية» بأجزائه الثلاثة.

أمّا ما يسجل على هذه المحاولة، فإنها وقعت في الإشكال نفسه التي وقعت فيه من قبل محاولة أرسطو في الأزمنة القديمة حين نظرت إلى الإنسان من جهة التناظر مع الحيوان بوصفه الكائن المغاير له، بحثًا عن الحدّ الفاصل بينهما. فإن هذه الجهة ليست كافية وحدها في تكوين المعرفة بالإنسان حقيقته وماهيته، فهذه المعرفة إنما تتحقق من ثلاث جهات: من جهة الإنسان ذاته، ومن جهة التناظر مع غيره من الكائنات الحية، ومن جهة كونه كائنًا مخلوقًا، فالإنسان لم يظهر إلى الوجود بفعله الذاتي، وإنما جاء مخلوقًا، فلا تكتمل المعرفة به إلا بالعودة إلى خالقه الله سبحانه.

من جانب آخر، فإن هذه المحاولة لا تخلو من تعقيد، بسبب تركيزها الشديد على فكرة الرمز والرموز والرمزية، فهذه التسمية ليست بذلك الوضوح، ولا تعطي وضوحًا كافيًا في تعريف الإنسان. فأول ما يتبادر إلى الذهن حين سماع أن الإنسان حيوان ذو رموز، هو التوقف والتعجب، ثم التساؤل: ما المقصود بهذه الرموز، وما علاقتها بتعريف الإنسان؟ ومع مجرد المطالبة بتوضيحها بهذا الشكل يجعل فيها نقصًا من جهة كونها لا تتصف بالسهولة والبساطة والمباشرة، ويظهر عليها الغموض والإبهام.

وتتأكد هذه الملاحظة، حين نرى أن كاسيرر قد توسع كثيرًا في استعمال كلمة الرمز وضمها إلى كلمات أخرى عديدة، مكونًا بها عبارات ثنائية التركيب تتصل بموضوعات عدة، وجميعها تقريبًا تحتاج إلى بيان وتوضيح. من هذه العبارات: العالم الرمزي، الماضي الرمزي، المستقبل الرمزي، الفكر الرمزي، الجهاز الرمزي، الأشكال الرمزية، الصور الرمزية، الشبكة الرمزية، المسافة الرمزية وغيرها. كما لو أن الرمز بالنسبة إليه هو أعظم حقيقة يظهر متجليًا في عالم الإنسان، أو أنه النموذج التفسيري الصالح لكل التحليلات المتصلة بعالم الإنسان. ومن شدة هذا الاستعمال واتساعه وتفرده به، يمكن أن نصف كاسيرر بفيلسوف الرمزية، لكون أن هذه الكلمة من أكثر العلامات الدالة عليه سيميائيًا.

يضاف إلى ذلك أن كاسيرر خصص فصلًا عن الدين في كتابه المذكور «مقال في الإنسان...» دمجه مع الأسطورة، موضحًا فيه مدى حضور الدين في حياة الإنسان، وعده من الجوانب الأساسية التي يستعين بها الإنسان في تكوين رموزه ومسالكه في الحياة إلى جانب اللغة والأسطورة والفن والتاريخ والعلم. لكن وجه الملاحظة هنا، أن كاسيرر حين جاء على ذكر الأديان الكبرى في العالم أشار فقط إلى اليهودية والمسيحية والبوذية والكونفوشية، ولم يأت على ذكر الإسلام الذي غاب كليا عن كتابه اسمًا ونصًا وتاريخًا وثقافة، ولم يعده من الأديان الكبرى في العالم. ولا ندري ما تفسير هذا الأمر، هل نعده جهلًا بالإسلام وحدثًا غير مقصود! أم نعده تجاهلًا مقصودًا لكون أن الخطاب كان متجهًا إلى المجال الغربي المسيحي!

وفي كلتا الحالتين تبقى الملاحظة قائمة، ومن الصعب التسليم الكامل بمسألة الجهل بالإسلام بالنسبة إلى شخص مثل كاسيرر المعروف بثقافته الواسعة، وهذا ما ميزه به زكي نجيب محمود حين أشار إلى كتابه «فلسفة الأشكال الرمزية» مادحًا سعة اطلاعه وغزارة علمه، مبينًا أنه إذا زعم لك زعمًا عن هذا الجانب أو ذاك من فطرة الإنسان الأصلية، ساح بك سياحة طويلة في كل ما قد شهده التاريخ من حضارات وثقافات، فكأنما الآداب كلها، والأساطير كلها، والديانات كلها، والعلوم كلها، والتاريخ كله، ملك يمينه ورهن إشارته. فأين هذا من التجاهل التام إلى الإسلام!

مجلة الفيصل، صفر – ربيع الأول 1447هـ / سبتمبر – أكتوبر 2025م، العددان 587 - 588
كاتب وباحث سعودي «القطيف»