آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

”أحمد غير“

أمين محمد الصفار *

عندما يستعرض المرء صفحات من ذكريات من فقد من أحبته، يجد أن هذه الصفحات هي سلسلة متصلة لا تكاد تنتهي، فكل صفحة هي مرتبطة بأخرى وأشخاص مرتبطين بآخرين، منهم من رحل ومنهم ما يزال يفيض بالعطاء على صفحات الحياة، كل هؤلاء إضافة له فضلًا أو ترك بصمة في حياته، إلى الدرجة التي يشعر المرء أنه صنيعة مجتمع كامل هو مدين له وليس فردًا أو عدة أفراد فقط.

شعرت بهذا الشعور عندما مر بي شريط الذكريات مع الأخ العزيز المرحوم أحمد صالح السيهاتي الذي فقدناه مؤخرًا. هذا الإنسان المؤمن الذي ابتلاه الله بالمرض وكان طوال مدة مرضه صابرًا محتسبًا، لا تكاد ترى أو تسمع منه سوى كلمات الحمد والشكر دون أي تذمر أو أي كلمة قد تقلل من شأنه رغم شدة المرض وطول المدة التي قضاها بصبر قبل أن تنتهي معركته مع المرض.

المرحوم الحاج أحمد، الإنسان المؤمن، عفيف اللسان، صافي القلب والسريرة، لطيف المعشر، طيب القلب، الشهم النبيل الصادق الوفي والمتواضع، لم يغيره جمال الأيام ولا صروف الزمان.

قبل أشهر، فاجأ أحمد محبيه الذين يعرفونه ويعرفون وضعه الصحي وهو بكامل أناقته يحضر حفل زواج ابن صديقه؛ يبارك للعريس ويقف يستقبل المهنئين، وهو للتو قد أخذ الجرعة العلاجية الكيماوية وقد فعل المرض بجسمه ما فعل. بقدر ما كانت الفرحة بحضوره ومشاركته، بقدر ما كان القلب يلومه لتجشمه عناء الحضور وهو بهذا الوضع الصحي. لكن هذا هو أحمد الذي نعرف. لقد كنت أجيب أحد الأخوة عندما يسألني عنه بعبارة مختصرة: ”أحمد غير“.

بعد وفاته رحمه الله، ومن باب تذكر محاسن هذا الإنسان والترحم عليه، سألت أحد أقرب الأصدقاء: صف لي أبا علي أحمد؟ فأجابني بارتباك ظاهر على محياه: أنت تعرفه أيضًا. فقلت له: أريد أن أسمع منك. فقال: طوال صداقتي معه التي امتدت لما يقارب 40 سنة لم أسمع منه أنه ذكر أحدًا بسوء رغم كثرة معارفه واختلاف التحديات التي واجهته.

أقول لأبناء وبنات أحمد: أنا أحد الذين يدينون لأبيكم بدَين طوقني به، وما زِلت أذكره ولن أنساه ما حييت. إذ كنا في الليلة التي تسبق ليلة زفافي «كما يحدث عادة» يجلس أصدقاء وأقارب المعرس يتبادلون الحديث، لكن أثناء تلك السهرة الشبابية الأخيرة في عالم العزوبية، سأل أحدهم: هل جهزت البشت؟ فتذكرت أني نسيت أمر البشت، وصار الوقت حرجًا لتأمينه وتجهيزه، صار لزامًا علي أن أتصرف. فصرت أبحث دون جدوى عن بشت ألبسه ليلة الزفاف، لكن قبيل الفجر وبعد أن تفرق الجميع، عاد أبوكم ومعه بشت جديد لم يتم خياطته بعد، ويبدو أنه مُهدى له وأنه عزيز عليه. لم يكن لي بد من أن أقبله بكثير من الامتنان والعرفان لصنيعه هذا. ومعروف جارتنا الفاضلة الخالة أم ياسر أيضًا، التي قامت مشكورة «والشكر لا يفيها حقها» بخياطته بعد صلاة الصبح كما وعدت، وتحملت كل تحذيراتي وتأكيداتي لها بسرعة الإنجاز والعناية الفائقة بالبشت لأنه مستعار ومن صديق عزيز.

أحببت أن أذكر بعضًا من صفات ومزايا هذا الإنسان ليس من باب عاطفة الصداقة فقط، والتي امتدت لأكثر من خمس وثلاثين سنة، بل لأنه نموذج إنساني رائع كان بيننا.