مارسيا
لو أن الحياة انقرضت من على كوكب الأرض، ومن قمر زحل تيتان، فلسوف تظل باقية في المريخ، هذا هو شعار دولة مارسيا التي تقع في المريخ، ولو أنه شعار لا يذكر أبدا أمام سكان الجِرمين الآخرين، حرصا على مشاعرهم، وكذلك لتجنب الفتن الطائفية.
لكن حتى سكان المريخ ممن عادوا إلى الأرض ظلوا يحملون معهم شعورا بالتفوق، ذلك أن التكنولوجيا في المريخ كانت متقدمة جدا مقارنة بنظيرتيها في الجِرمين الآخرين، كذلك طوّر المريخيون منظومة دفاع متقدمة تحسبا لأي غزو فضائي محتمل، فليكن الغزو الفضائي السابق لكائنات نشأت على كواكب بعيدة ثم وَجدت طريقها للوصول إلى الأرض محض خرافة، نحن في المريخ سنكون مستعدين لمثل حدوث شيء كهذا مستقبلا، إن لم نتمكن من درء الخطر فلسوف نقلل من ضرره وآثاره علينا قدر المستطاع.
أنا سوزان المريخي، وسوف أحكي لكم بعض ذكرياتي من ذلك البلد المتقدم قبل رحيلي إلى الأرض....
مارسيا هي دولة تتكون من ثماني عشرة مستعمرة متجاورة لتشكل حرف L, بنيت جميعاً تحت الأرض، تغطيها ألواح تحصد الطاقة الشمسية، وتحيط بالألواح محركات فولاذية ضخمة تثبتها وتقوم هي نفسها بتوليد الطاقة باستعمال فروقات درجات الحرارة بين الليل والنهار، تحيط بها كذلك مانعات صواعق ومنظومة دفاع جوي تستشعر وتدمر النيازك التي تقترب أكثر من اللازم.
في الساحة الرئيسية بكل مدينة عرض هولوقرامي حيّ لا يتوقف أبداً يصور ما يحدث في الخارج، ومشاهد تعاقب الليل والنهار، بالإضافة إلى المنظر الساحر للشروق والغروب. وتوجد رحلات سياحية لمن يريد الخروج إلى السطح مع إشراف متخصصين وبعد تدريب قصير على ارتداء واستعمال المعدات المخصصة لها، لكنها رحلات مكلفة جدا... البديل هو أن تسافر إلى المدن أو المستعمرات المجاورة حيث لكل مدينة منها طراز مِعماري يختلف تماما عن الأخرى. أو زيارة المزارع الداخلية الشاسعة شمال البلاد، حيث توجد غرف للزراعة العمودية بتصميمات خلابة مخصصة للزوار، مع حدائق حيوانات ترى فيها أصنافاً مهجنة غير مألوفة.
الحق أنني أحب بلدي مارسيا، ولم أكن أتخيل أنني يوما ما سوف أهاجر إلى الأرض....
يتكلم معظم سكان يوروأفريقيا الغربية والشرقية لغة مارسيا كلغة ثانية، وذلك بسبب التقدم التقني والعلمي الهائل لدولة مارسيا، ولذلك لن تكون اللغة مشكلة..
كِلا أبويّ من كبار علماء مارسيا، وأنا الطفل الوحيد لهما، وحين عَرضا علي الهجرة إلى الأرض كنت في الثامنة من عمري بالسنوات المريخية، هذا يعني سن المراهقة... هذا يعني أنني سأطلب منهما أن يغادرا بدوني إن كانا مصران إلى هذا الحد. وبالتالي فقد عدلا عن الأمر، واعتذرا عن قبول الوظائف التي عرضت عليهما على ذلك الكوكب.
لم يُجدِ إغرائي بالحياة على أرض أتجول على سطحها بلا معدات أو ملابس عازلة مخصصة.
لكن حين علمت أن صديقتي راحيل ستهاجر مع أهلها إلى يوروأفريقيا الشرقية، طلبت من والديّ أن نذهب بدورنا، مع وجهتهما الأصلية كانت يوروأفريقيا الغربية، وهكذا ودّعنا عمي آدم وتخلى أبواي عن الحجز في فئة كبار الشخصيات كي أكون بالقرب من صديقتي، سافرنا في الفئة الاقتصادية، والتي كانت مقسمة إلى حجيرات صغيرة لكنها مريحة للنوم، بينما تقضي ساعات يقظتك بين صالة ألعاب صاخبة أو في مقاهي تعرض أفلاما ومباريات مسجلة لكرة الرأس من الكواكب الثلاثة المأهولة في منظومة أولاد الشمس*.
كنت أقضي معظم وقتي مع راحيل وأختها يارا...
أما فاطمة فقد قابلتها لأول مرة في يوروأفريقيا... في منتزه قريب من بيتي، بينما كنت أنتظر راحيل ويارا لتناول وجبة خفيفة معا والثرثرة التي لا تنتهي أبدا عن مقارنة الحياة في يوروأفريقيا مع نظيرتها في مارسيا، كانت تحمل أخاها الصغير هاشم والذي كان يضحك بلا توقف على يعسوب مر بجواره وكأنه أغرب شيء قد يراه المرء في حياته، قلت لها: ”طفلكِ جميل“، فردت علي بغضب أنه أخاها وليس ابنها، ولفتت نظري إجادتها للغة المريخية، قبل أن أكتشف أنها كانت في الواقع تعيش في مكان قريب من بيتي في المريخ، وأنها هاجرت مع أهلها إلى الأرض بعدنا بسنة مريخية، أي ما يعادل حوالي سنتين أرضيتين.
الحقيقة أنني وقتها كنت أشعر بالبهجة والإثارة لشعور المشي فوق الأرض وليس في أقبية مدفونة تحتها، ورؤية شمس لا أعرف بالضبط كيف أصف الفرق بينها وبين الصور الهولوقرامية للشمس التي اعتدنا عليها في مارسيا، شمس تضحك بحياء خلف نقاب من الأقمار الصناعية المزروعة حولها، والتي تحاول - عبثاً - أن تحجب جزءا من نورها.
كنت في أفضل مزاج يسمح لي بالثرثرة مع شخص أقابله لأول مرة، وبالتالي فقد سألت فاطمة عن أماكن الترفيه القريبة.
”يوجد متحف قريب كان اسمه“ متحف الزمن الغابر ”وقد غيروا اسمه مؤخرا إلى“ قبل ألف سنة وسنة".
لكن فاطمة ترى أن الاسم الجديد سخيف جدا...
فهمت أن فاطمة زارته كثيرا من قبل، لأنه قريب ولأنه يسمح بدخول الأطفال في سن هاشم، الذي تتركه أمها معها أغلب الوقت، واقترحت علي بعد تردد أن تصطحبني إلى هناك.
وقد ذهبنا بالفعل بعد انضمام راحيل ويارا لنا... وبعد أن عرّفتهما بصديقتي الجديدة، بدا أن فاطمة استمتعت بشرح محتويات المعرض لنا أكثر من الجولة في المعرض نفسها، كما أراحها وجود صديقات حولها جئن من مارسيا بدورهن، ويساعدنها في العناية بهاشم. وقد تمنيت لو كان لي أخ بسنه. لكن فاطمة ضحكت وقالت أنني لم أجرب بعد إزعاجه حين يجوع أو ينعس، كلنا نحبهم وهم في أفضل حالاتهم..
”هذا ينطبق على الكبار كذلك“ قالت يارا وهي تبتسم بسخرية.
كانت راحيل تتأمل لوحة لامرأة تضع غلالة سوداء على رأسها، قبل أن تعلق: ”يبدو أن هذه السيدة جاءت من تيتان، هي تحاول حماية وجهها من الشمس بهذه الغلالة، التيتانيون لا يتحملون الشمس“.
”لم يكن أحد من الناس يعيش في تيتان ولا المريخ في زمن اللوحة“..
ردت فاطمة.
”امرأة من زمن الطيبين“.. قالت يارا وهي تقرأ الملصق الإرشادي بجوار اللوحة وتشير إليه، قبل أن تلتف حولها قائلة: ”ثمة شيء غريب بخصوص هذا المتحف“.
بينما ضحكت أختها راحيل قائلة: ”هم طيبين... نحن أشرار هههههههه“.
- ”ههههههههه نعم يوجد تلميح أن زمننا هو زمن الأشرار“ قلت أنا..
- ”ثمة شيء غريب بخصوص هذا المتحف“... كررت يارا تعليقها وهي تتلفّت حولها بشيء من الرهبة..
ابتسمت فاطمة وربتت على كتفها قائلة: ”لا يوجد روبوتات مرشدين أو شروحات معززة بالذكاء الصناعي لمحتويات المتحف، هذه هي الفكرة هنا... يعتقدون أن كثرة الشرح والمعلومات قد تنعكس سلبا على تجربة الزوار، يفترض أن تتأملي المحتويات وتخرجين بانطباعاتك الخاصة، كما أن المكان نفسه يعود بك للزمن الذي لم تكن هذه التقنيات شائعة فيه“.
”هذا جميل“ علقت أنا على كلامها.. قبل أن ألتفت إلى راحيل وأثرثر معها عن أن الأرضيين يرون أننا نحن المارسيين أشراراً على الأرجح... وأننا لا نختلف كثيرا عن الروبوتات إلا بنوايانا السيئة...
يرون أنهم يمثلون الأصالة والتاريخ الحقيقي والشرف، بينما التيتاني مغلوب على أمره يشعر بالغربة والغرابة، له شخصية انعزالية غالبا.. أما المارسي مثلنا فهو عنوان للعجرفة والشعور بالتفوق.
- ”كل الفعاليات والمهرجانات التي نظمت للتفاهم والتوعية بثقافات الكواكب الأخرى نظمها مارسِيّون“. علقت يارا وقد بدا أن رهبتها تبخرت وأنها مرتاحة وآلفة للمكان والصحبة.
- ”ما هذا؟“ قالت راحيل وهي تشير إلى جهاز به أذرع مفلطحة متعددة ومتصلة بالمنتصف..
نظرنا جميعا إلى فاطمة، لكنها ابتسمت بحرج وقالت: ”لو كنت أعرف لتقدمت بوظيفة مرشد سياحي هنا!“..
- ”مكتوب هنا أنها مروحة“ قالت يارا..
- ”هل تعرف إحداكن ما هي؟“ قلت أنا، ثم رأيتُ زرا أخضر بارزا فلوحت يدي أمامه، وحين لم يحدث شيء ضغطت عليه....
فوجئنا بالأذرع المفلطحة تلاحق بعضها البعض وهبّة هواء مغبرة تخرج في وجوهنا..
لكنها لم تكن مفاجأة سارّة لهاشم الذي أخافه الشيء فأخذ يبكي... وبالتالي فقد استأذنت فاطمة للعودة به إلى البيت... وبقينا نحن الثلاث نتجول في المعرض.. وتفرقنا في أنحائه...
فجأة سمعت راحيل تقول باستغراب: ”هل هذه مرآة؟“.
نظرت باتجاهها فرأيت يارا تقترب منها لتقف بجوارها وهما يتأملان ما بدا من بعيد كمرآة لها إطار مزخرف بزخارف غريبة لها طابع مقبض يجعلك تشعر بالتشاؤم...
اتجهت نحوهما وأنا أعلق: ”إطار هذه المرآة قبيح جداً“...
وبينما كنت أسير باتجاه صديقتيّ، شعرت بشخص ينظر إلي فالتفتّ، لكن لم يكن ورائي أحد..
.... سوى المرأة بداخل لوحة ”امرأة من زمن الطيبين“ والتي بدا وكأنها تنظر نحوي، بل وتنظر إليّ بنظرة محذرة..
أكاد أقسم حين رأيتها من قبل أنها كانت تنظر إلى الأسفل وكأنها تخاف أن تتعثر بشيء خلال مشيها بين النخيل! لكنني واهمة غالبا.. وبالتالي فقد أكملت سيري نحو راحيل ويارا وأنا أعلق بسخرية: ”لقد توقفتما أمام المرآة أكثر من أي تحفة في هذا المعرض، هل تحسبان أنكما جميلتان إلى هذا الحد؟“..
قربت يارا وجهها من المرآة قائلة: ”هذه المرآة تغير الشكل، لقد رأيت من قبل مرايا تغير شكلنا، ولكن ليس إلى هذا الحد“.
غلبني الفضول فحثثت الخطى نحوهما..
لنقف نحن الثلاث نتأمل وجوهنا الغريبة في المرآة ببلاهة... هل يفترض أن هذا نحن؟
كان الانعكاس مشَوّها.. ومن الواضح أن سطح المرآة لم يكن مستويا... لكن هذا ليس كل شيء.. ثمة شيء خطأ..
بقينا نتأمل انعكاسنا المشوه بضع لحظات في صمت، قطعته يارا فجأة بتعليق عن الإطار الأسود والنحاسي بزخارفه العجيبة القبيحة: ”هذه الزخارف لا يبدو لي أنها تنتمي لأي مكان أو زمان أعرفه“.
لكن انعكاسها في المرآة لم يكن ينظر إلى الزخارف، بل كان ينظر في عينيّ مباشرة... بينما تتمتم الشفتان بلا صوت: ”سوف نعود“.
اجتاحني رعب لا ينتمي لهذا العالم، فصرخت.
ثم لم أعد أرى أو أسمع شيئا.
لوحة ”امرأة من زمن الطيبين“