آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

آخر فنجان دفء

سوزان آل حمود *

منذ البدايات، نحلم ببيتٍ تغمره المودة، وزواجٍ يظلله الاحترام، وعلاقةٍ تُثمر اهتمامًا متبادلًا وحبًا صادقًا. نحلم بأبناءٍ بارّين، بضحكاتٍ تملأ الأركان، وبعائلةٍ تنسج يومها بخيوط الطمأنينة. هي صورة براقة، كقصيدة نُعلّقها في خيالنا، ونظنها ستبقى للأبد.

لكن الحياة لا تمنح دائمًا ما نتمنى. فبيننا من ينسى أن الأسرة هي الملاذ، فيجعلها آخر اهتماماته. يوزّع دفء حضوره على الأصدقاء، وينثر ضحكاته بينهم، ثم يعود إلى بيته بوجه متجهم، ولسانٍ لا يعرف سوى النقد. زوجته، التي انتظرت كلمة حانية، لا تجد إلا اللوم. قال تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء: 21]

أبناؤه، الذين كانوا بحاجة إلى لمسة حنان، لا يلقون سوى قسوة الغضب. وهكذا يتحول البيت إلى جدران صامتة، تخنقها الحسرة بدل أن تُضيئها السعادة.

قال تعالى ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل: 72]

ولأن الأيام كفيلة بفضح الزيف، فقد شاءت الأقدار أن ينفض من حوله من ظنّهم أوفياء. وحين خذلته المجالس، لم يبقَ له إلا أسرته التي أهملها يومًا. وكأن الله أراد أن يضعه أمام الحقيقة: أن السند الحقيقي لم يكن خارج البيت، بل كان في الزوجة الصابرة، وفي الأبناء الذين انتظروا ابتسامة لم تأتِ.

وهاهو في ذات مساء، جالس يحمل فنجان قهوته كأنما يحتضن آخر ما تبقى من دفء. نظر إلى زوجته، حاول أن يستجمع الكلمات، أن يزرع في صدرها كلمة اعتذار، أن يطلب منها الصفح عمّا مضى. لكن اللحظة خانته… وبدل أن يفتح صفحة جديدة، أسدل القدر الستار. رحل وهو يرتشف قهوته، تاركًا خلفه فنجانًا لم يكن عاديًا، بل كان آخر فنجان دفء.

ختامًا

ما أقسى أن نؤجل الحب حتى يضيع الوقت، وأن ننتظر لحظة الاعتذار حتى تفلت من بين أيدينا. تذكّروا دائمًا: الأصدقاء يرحلون، والرفقة تتبدد، أما الأسرة فهي المأوى الأخير. لا تؤجلوا كلمة حانية، ولا تختصروا الحنان في وعود مؤجلة. فربما يكون فنجانكم القادم هو الأخير!