آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

الوهم الأكاديمي: عالم يجهل جهله

سراج علي أبو السعود *

لم يثبت بسند معتبر ما نُسب إلى نجيب محفوظ من قول: ”الشهادة ورقة تثبت أنك متعلم، لكنها لا تثبت أبدًا أنك تفهم.“ لكن، وبغض النظر عن القائل، فإنني أراها صحيحة إلى حد كبير. إنها ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل هي تشخيص واقعي لظاهرة نعايشها يوميًا. الأكاديمي الذي يتوهم أن شهادته العالية ترفعه إلى مرتبة أعلى من غيره ظاهرة متكررة في كل مكان، بينما الواقع يؤكد أن تلك الورقة لم تمنحه حدًا مقبولًا من الوعي. إن الفهم بمعناه العام لا يعني مجرد إتقان التخصص العلمي الضيق، بل هو ذلك الوعي الذي يمكّن صاحبه من قراءة الأحداث بموضوعية، وتحليلها بعقلانية، ومناقشتها بوعي في أي حوار.

حديثي في هذه القضية قد يبدو مكررًا، لكن خطورتها تفرض العودة إليها مرارًا. فالمتخصص الذي يفتقر إلى ثقافة عامة راسخة يظل محدود الأدوات مهما بلغ في مجاله؛ لأن العلم وحده لا يكفي لصياغة إنسان متوازن وواعٍ. وحين يظن بعض الأكاديميين أن شهاداتهم تكفل لهم الكمال، ينزلقون من غير قصد إلى إصدار الأحكام في ميادين لا يعرفونها. كم مرة - قارئي الكريم - رأيت أكاديميًّا يتحدث بثقة عن القانون أو الدين أو الفلسفة خارج نطاق تخصصه فيطلق أحكامًا قاطعة؟ وفي المقابل، كم مرة رأيت مثقفًا حقيقيًّا يختار الحذر والتواضع حين يتناول موضوعًا خارج دائرة خبرته؟ هذا الفارق الجوهري يكشف قيمة الثقافة الواسعة التي تمنح صاحبها وعيًا أعمق، ويقابله الغرور الذي يفضح نفسه كلما تجاوز المرء حدوده. من هنا يتضح أن للمشكلة بُعدين أساسيين: الأول أخلاقي، لأن الكلام بلا علم تشويه للمعرفة وعبث بالحوار. والثاني تربوي، لأنه يذكّر صاحب الشهادة بضرورة أن يطوّر نفسه ثقافيًا، فلا يليق بمن يحمل مكانة علمية رفيعة أن يكون ضعيف الثقافة العامة.

في اعتقادي أن على صاحب العلم أن يُنصت قبل أن يتكلم؛ فالإصغاء أحيانًا أعمق من الكلام لأنه أداة للتعلّم، والصمت عن اللغو هو لبّ الحكمة. ولْيَعلم أن الشهادات مهما علت لا تكفل الفهم خارج حدود التخصص، وأن التخصص مهما اتسع لا يغني عن سعة الاطلاع، فهي الزاد الحقيقي لكل باحث. أما أخطر ما يواجه الأكاديمي فهو التصفيق الزائف؛ إذ يغذي الوهم ويُسكر العقل، فيصرفه عن سماع النقد ولو كان منطقيًا. إن الفهم يحتاج إلى أفق رحب وتواضع دائم، يجعل صاحبه باحثًا عن المعرفة من كل منهل. متقبّلًا فائدة قد تأتيه ممن هم دونه في الرتبة الأكاديمية. وهكذا، حين يجتمع العلم بالثقافة يضيء الفكر ويثمر، ولا يبقى مجرد لقب يُكتب قبل الاسم.