ذكاء الإصغاء: مهارة غائبة في البيوت والمدارس
حين تصمت الألسن وتنصت القلوب… يولد الفهم وتزهر العلاقات
حين يوصينا القرآن الكريم بخلق الإصغاء، فإنه يرفعه من مرتبة السلوك العابر إلى مرتبة العبادة الواعية، فيقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18]، وكأن الإصغاء هنا ليس سماعًا فحسب، بل بحث عن جوهر المعنى وأحسنه. وفي السنة النبوية، كان رسول الله ﷺ إذا كلمه أحد أقبل عليه بوجهه كله، وأنصت حتى يفرغ، فجمع بين أدب الجسد وأدب الروح في الإصغاء.
لكننا اليوم نعيش زمنًا صاخبًا، كثرت فيه الأصوات وقلّ فيه الإنصات، حتى صارت الأذن تسمع دون أن يصغي القلب. نعيش في عالم يتحدث فيه الجميع، لكن القليل فقط من ينصت بحق. وحين نفتقد الإصغاء، نفقد معه أهم جسور الفهم والتواصل، سواء في البيت أو في المدرسة.
الإصغاء ليس مجرد صمت حتى ينتهي الطرف الآخر من الحديث، بل هو فعل وعي، وحضور ذهني، وقدرة على التقاط ما وراء الكلمات. إنه ذكاء عاطفي وفكري في آن واحد، لأنه يقرأ النبرة، ويلتقط الإشارة، ويستشعر الحاجة قبل أن تُقال.
لكن المؤسف أن هذه المهارة لا تُدرَّس في مناهجنا الدراسية، ولا تُمارس في بيئاتنا الأسرية بالقدر الكافي، فننشأ على الكلام أكثر من الإصغاء، وعلى الرد أكثر من الفهم.
أذكر موقفًا روته لي إحدى الأمهات، حين جاءها ابنها المراهق يشكو من ضغوط المدرسة، فقاطعته بعد جملتين قائلة: ”عليك أن تذاكر أكثر وتترك هاتفك“. لم تنتبه أن ابنها كان يبحث عن حضن يصغي، لا عن محاضرة جديدة. النتيجة أن الشكوى لم تُستكمل، والمشاعر بقيت معلقة في صدره.
وفي المقابل، روت لي أم أخرى أنها حين لاحظت حزن ابنتها، جلست بجوارها دون أسئلة، وأمسكت يدها، وقالت: ”أنا هنا… احكي إذا أردتِ“. لم تمض دقائق حتى فتحت الفتاة قلبها، وخرج الألم في كلمات أراحتها. الإصغاء أحيانًا هو الدواء قبل أي نصيحة.
الإصغاء في الأسرة ليس رفاهية، بل هو حجر الأساس في بناء الثقة بين الأجيال. ومن دون هذه الثقة، ينكسر جسر التواصل، ويصبح الحوار مجرد أوامر وردود مقتضبة.
في إحدى الفصول، كان طالب يرفع يده بحماس ليتحدث، لكن المعلم كان منشغلًا بإنهاء الدرس في الوقت المحدد، فطلب منه تأجيل السؤال. تكرر الأمر مرات، حتى توقف الطالب عن المحاولة، وبقي السؤال في عقله بلا إجابة، وربما بقي معه شعور أن صوته غير مسموع.
وفي المقابل، هناك معلمة للصفوف الأولية، كانت تقول دائمًا: ”كل سؤال يستحق أن يُسمع“، فكانت تفتح المجال للطلاب للتعبير، حتى لو تأخر الشرح. والنتيجة أن طلابها كانوا أكثر جرأة على الحوار، وأكثر حبًا للتعلم.
حين يغيب الإصغاء عن الصف، يتحول التعليم إلى عملية أحادية الاتجاه، لا تخلق متعلمًا ناقدًا ولا مواطنًا متعاونًا، بل مجرد حافظ للمعلومة.
المجتمعات التي تتقن الإصغاء تملك قدرة أكبر على حل النزاعات، وصنع قرارات أكثر عدالة، وبناء علاقات إنسانية متينة. فالإصغاء يعلّمنا أن نفهم قبل أن نحكم، وأن نبحث عن الجسر قبل أن نبني الجدار.
وفي البيت والمدرسة، حين يصبح الإصغاء قيمة حقيقية، فإنه يخلق جيلًا يعرف كيف يحاور، ويتفهم، ويحترم اختلاف الآخر. وهذا الجيل هو ما تحتاجه أي أمة تسعى للتنمية والسلام الاجتماعي.
الإصغاء ليس مهارة هامشية، بل هو ذكاء أساسي لبناء الإنسان. وحين نغرسه في بيوتنا ومدارسنا، فإننا لا نعلّم أبناءنا فقط كيف يسمعون، بل كيف يفهمون، ويتواصلون، ويصنعون فرقًا في حياة الآخرين. وربما كان الإصغاء اليوم هو الصمت الوحيد القادر على أن يغيّر العالم