آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

سيّارة ليست لي

عماد آل عبيدان

استيقظتُ صباحًا على صوت إنذارٍ لا أعرفه، كأنه لا يخصّني. فتحت النافذة، فإذا بسيارة سوداء تقف أمام بابي، مفتاحها على المقعد، والمقاعد تلمع بنظافة غريبة لم يعتدها جلدي.

اقتربتُ منها متردّدًا، وضعت يدي على المقود، فإذا بي أشعر بثقل عجيب، كأن عجلة القيادة تسخر من قبضتي. همستُ لنفسي: ليست سيارتي… لكن لماذا لا أجرب الطريق؟

انطلقت.

الطرقات تعرف صوت عجلاتي القديمة، لكنها الآن تنكرني. المارة يلوّحون، بعضهم يبتسم ابتسامة ساخرة: كأنهم يقولون لي نعرف أنك لست أنت.

أشيح بوجهي، وأضغط على البنزين أكثر، أريد أن أغطي الصمت بالسرعة.

على المقعد المجاور جلس شخص لا أعرفه. لم يقل شيئًا. لم يحتج. فقط كان ينظر إليّ نظرة عارف: هذا مقعدي… وأنت تعلم ذلك.

التفتُّ نحوه، ابتسمتُ كأني أملك الأمر، لكنه لم يبتسم. لم يكن بحاجة إلى كلام، فالصمت بيننا كان اعترافًا كاملًا: أنا أعلم، وهو يعلم، أننا معًا في كذبة مكشوفة.

تجاهلت.

أدرتُ المذياع، ارتفعت موسيقى غريبة لا أعرف لحنها، ومع ذلك هززتُ رأسي وكأني أحفظها عن ظهر قلب. مررنا بشارع طفولتي، البيوت رمقتني بدهشة: أين سيارتك المتهالكة التي عرفناها؟ من هذا الذي يقود سيارة غيره وكأنه هو؟

أوقفتُ السيارة عند محطة وقود. عامل المحطة نظر إليّ مطولًا وقال: ”هذه ليست سيارتك.“

ابتسمتُ ببرود: ”هي الآن تحت يدي.“

ردّ بابتسامة أعمق: ”تحت يدك، نعم… لكن ليست لك.“

واصلتُ القيادة، لم أعر أحدًا أي اهتمام، ولكني لم أعد أسمع إلا صدى صوت داخلي: لماذا تصرّ على أن تكون غيرك وأنت تدري أنّك لست أنت؟ ولماذا تصرّ أن يراك الآخرون وأنت تعرف أنهم يعرفون الحقيقة؟

عند أول إشارة حمراء، نظرتُ في المرآة. لم أرَ وجهي. رأيتُ شخصًا آخر يرتدي وجهي. كان يضحك عليّ.

فهمتُ متأخرًا أنني طوال الطريق لم أقد السيارة، كانت السيارة تقودني إلى حيث تشاء، وأنا أتمسّك بالوهم أنني السائق.

ترجّلت. تركتُ المفاتيح حيث وجدتها. أدركت أن أشدّ الطرق قسوة هي التي تسير فيها بسيارة ليست لك، وأمام شهود يعرفون حقيقة الأمر وأنّك لا تملك حتى العنوان.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
محمد يوسف آل مال الله
[ عنك ]: 30 / 8 / 2025م - 11:09 ص
أخي الكريم أستاذ عماد…. تحية طيبة وبعد

معرفة الذات وقناعة المرء أمران قد لا يتطابقان عند الغالبية العظمى من البشر. الأوهام والأحلام الزائفة تسيطر عليهم وتجعلهم يعيشون في هذا الوهم إلى ما لا نهاية إلّا مَنْ رحم ربي.
2
عماد آل عبيدان
31 / 8 / 2025م - 4:37 ص
أخي العزيز أبا يوسف، صدقتَ القول… فالوهم أخطر من الجهل، لأنه يُسكر الروح ويُوهمها أنها على صواب وهي تغرق. كثيرون يعيشون أسرى لوهم يعرفون زيفه ومع ذلك يتمسكون به، وما أجمل أن يمدّ الله لنا يد البصيرة فنعود إلى حقيقتنا قبل أن نصحو على سراب الطريق.