آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

العولمة بين البناء والهدم المجتمعي

محمد يوسف آل مال الله *

العولمة ليست ظاهرة أحادية الاتجاه، بل هي عملية مركّبة تحمل في طيّاتها إمكانات للبناء وأخرى للهدم على مستوى المجتمعات إذ يمكننا النظر إليها من زاويتين؛ زاوية البناء وزاوية الهدم.

أولًا: زاوية البناء المجتمعي؛ وذلك من خلال…

• التواصل الثقافي والفكري: العولمة سهّلت تبادل الأفكار والتجارب الإنسانية، مما عزّز الانفتاح والتنوع وزاد من فرص التعلّم من الآخرين.

• التنمية الاقتصادية: فمن خلال التجارة الحرة، الاستثمارات، والتكنولوجيا، أتاحت العولمة فرصًا للنمو ووفّرت وظائف جديدة ورفعت مستويات المعيشة في بعض البلدان.

• نقل المعرفة والتكنولوجيا: لقد باتت المجتمعات تستفيد بسرعة من الابتكارات الطبية والعلمية والتعليمية، ما ساهم في تحسين جودة الحياة.

• تعزيز القضايا المشتركة: كحقوق الإنسان، حماية البيئة، والصحة العالمية «كما ظهر في التعاون الدولي ضد الجوائح».

ولبيان هذا التأثير على البناء المجتمعي، إليك بعض الأمثلة:

• فبعد الحرب العالمية الثانية نجد أنّ اليابان انفتحت على التكنولوجيا الغربية، واستفادت من العولمة الصناعية، كما دمجت هذه التقنيات مع قيمها المحلية «الانضباط، الجودة»، فصارت قوة اقتصادية عالمية مع حفاظها على هويتها الثقافية.

• كما أنّ دول الخليج العربي استفادت من الاستثمارات العالمية في مجال النفط والغاز، ما نقلها بسرعة من اقتصاديات بسيطة إلى مراكز مالية وتجارية عالمية، كما ساعدت العولمة في تطوير التعليم والطب والبنية التحتية.

• كوريا الجنوبية حيث تحوّلت من دولة فقيرة في الخمسينيات إلى قوة صناعية وتكنولوجية «سامسونغ، هيونداي»، كما استثمرت العولمة لتصدير منتجاتها، لكنّها في الوقت نفسه صدّرت ثقافتها «الدراما الكورية، موسيقى K-pop».

ثانيًا: زاوية الهدم المجتمعي؛ وذلك من خلال…

• فقدان الهوية الثقافية: فالتداخل الشديد قد يؤدي إلى تآكل الخصوصية الثقافية واللغوية، وصعود ثقافة استهلاكية مهيمنة.

• الهيمنة الاقتصادية: عززت العولمة الفجوة بين الدول الغنية والفقيرة، إذ تستفيد القوى الكبرى أكثر، بينما قد تُستنزف موارد الدول الأضعف.

• التفكك الاجتماعي: انتشار أنماط استهلاكية وسلوكيات جديدة مما يُضعف الروابط التقليدية ويؤدي إلى صراع بين الأجيال.

• الاستلاب الفكري والإعلامي: سيطرة وسائل الإعلام العالمية الكبرى قد تفرض سرديات معينة وتهمّش السرديات المحلية.

ولبيان هذا التأثير على الهدم المجتمعي إليك بعض الأمثلة:

• المجتمعات الإفريقية التقليدية: تعرّضت هذه المجتمعات خلال القرون الأخيرة لهيمنة اقتصادية من الشركات المتعددة الجنسيات حيث ظلت ومازالت تعاني من الفقر بسبب استنزاف ثرواتها، مما أضعف استقرارها الاجتماعي والسياسي رغم وفرة مواردها الطبيعية،

• اللغات والثقافات المحلية: مئات اللغات في العالم أصبحت مهدّدة بالاندثار حيث أنّ العولمة الإعلامية والثقافية جعلت الإنجليزية ولغات أخرى قليلة جدًا مهيمنة، فلغات السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية وأستراليا تواجه الانقراض.

• أمريكا اللاتينية في الثمانينيات والتسعينيات: تم تطبيق ”وصفات العولمة الاقتصادية“ «خصخصة، تقليص الدعم، فتح الأسواق بلا ضوابط» مما أدّى إلى أزمات اقتصادية وبطالة مرتفعة، فازداد التفاوت الطبقي، وظهرت موجات من الاحتجاجات الشعبية.

فمن هاتين الزاويتين يمكننا القول بأنّ العولمة تشبه سلاحًا ذا حدّين:

• إذا استُثمرت بوعي، تُصبح فرصة لبناء مجتمع أكثر وعيًا، تنوعًا، وعدالة، فعندما تكون هناك إرادة داخلية قوية «مثل اليابان وكوريا»، تتحوّل العولمة إلى رافعة للبناء.

• وإذا فُرضت دون توازن أو مقاومة ثقافية/اقتصادية، تتحوّل إلى عامل هدم يذيب الهوية ويفاقم التفاوتات. بمعنى أنّه عندما يُستسلم لها دون استراتيجية، قد تتحوّل إلى قوة هدم تُضعف المجتمع من الداخل.