آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

أعلن هدفك لذاتك!

ما من حركةٍ يقوم بها الإنسان إلا ومن ورائها هدف، حاضرًا كان في وعيه، أم غائرًا في لا وعيه. وهنا تتجلّى أهمية أن يُصرّح المرء بهدفه لذاته، كحدٍّ أدنى من الصدق مع نفسه.

ويُطرح هنا سؤالٌ محوري: هل يمكن أن يمتلك الإنسان هدفًا دون أن يصرّح به حتى لنفسه؟

الجواب: نعم. قد يظلّ الهدف كامناً في لا وعيه، ويعجز عن البوح به، بل وربما لو بذل جهدًا في استخراجه لتراجع عن الفعل الذي كان يدفعه ذلك الهدف.

ثمّة حقيقة أخرى، وهي أنّ الهدف المعلن ليس بالضرورة هو الهدف الأساس. فكثيرًا ما يكون الهدف المعلن غطاءً لغاية أعمق، خفيّة، تتحرك في باطن الإنسان دون أن يجرؤ على الاعتراف بها، حتى أمام ذاته.

وليس هذا قاصرًا على مجال دون آخر. ففي العلاقات الأسرية مثلًا: قد يُعلن الزوج أن هديته لزوجته تعبيرٌ عن محبته، وهذا صحيح، لكن ربما يختبئ في أعماقه هدف آخر، كأن يسعى لاستمالتها لمصلحةٍ ما لا يجرؤ على الاعتراف بها.

وقد تسعى الزوجة إلى التقرب من قلب زوجها بعملٍ يبدو مفعمًا بالحب، غير أن في أعماقه غاية أخرى يُخفيها دهاء النفس ورغبتها في الوصول إلى ما تريد.

وقد يكتب كاتبٌ مقالًا أو يُصدر كتابًا معلنًا أن هدفه نشر الثقافة وبثّ الوعي بين الناس ليرتقي بالمجتمع، وهذا قد يكون صحيحًا، غير أنّه في أعماق نفسه قد يُخفي هدفًا آخر لا يجرؤ على الاعتراف به.

وقد يرتقي خطيبٌ المنبر مُعلنًا أن غايته وعظ الناس وإرشادهم وتذكيرهم بسيرة الرسول الأعظم ﷺ وأهل بيته الطاهرين والصالحين من المؤمنين، إلا أنّ في داخله ما هو أعمق من ذلك، هدفٌ كامنٌ لا يستطيع البوح به حتى لذاته.

وكذلك الإمام الذي يقف أمام المصلّين، معلنًا أن غرضه هو هدايتهم وربطهم بخالقهم، بينما قد يسكن في أعماقه هدفٌ آخر، دفينٌ، يستحيل عليه أن يُصارح نفسه به.

وفي الواقع الاجتماعي: قد ينشط أحدهم في خدمة المجتمع معلنًا أن دافعه نيل رضا الله وخدمة الناس، بينما يضمر في داخله هدفًا آخر يصعب أن يُجهر به حتى مع نفسه.

وقد يتخذ أحدهم هدفًا استنادًا إلى مغالطةٍ منطقية، فينحرف عن جادة الصواب. فبدل أن يتوجّه إلى ما يُحقق رضا الله تعالى، تجده يسير بنيةٍ مغايرة تُضلّه عن الغاية الحقيقية. ومن أبرز صور ذلك في المجال الاجتماعي أن يظنّ المرء أنّ كثرة حضوره للمناسبات والأنشطة تعني بالضرورة أنه إنسان صالح وفاعل في مجتمعه، فيجعل من هذا الحضور هدفًا أساسيًا له. وهذه مغالطة منطقية واضحة، إذ أن الحضور الشكلي لا يساوي دائمًا التأثير الحقيقي أو الإخلاص في خدمة الناس، فقد يكون الدافع هو حب الظهور أو الخوف من كلام المجتمع أكثر من الرغبة في العطاء.

وقد يتصور بعضهم أن كثرة متابعيه في وسائل التواصل الاجتماعي دليل على صدق رسالته وقوة تأثيره، فيجعل هدفه جمع الأعداد بدلًا من التركيز على جودة المحتوى أو عمق الأثر، مع أن العدد لا يعكس دائمًا القيمة، فقد يلتف الناس حول ما يُسلّيهم أو يُثير فضولهم، بينما يغيب عنهم ما ينفعهم حقًا.

وقد يقع بعض المشتغلين بالنقد الاجتماعي، سواء كان موجَّهًا لخطابٍ فكري أو لنشاطٍ اجتماعي، في مطبّ المغالطات المنطقية؛ إذ يتصوّرون أن نقدهم كفيلٌ بكشف الحقائق للناس، بينما قد يكون في الواقع سببًا في تمزيق المجتمع إذا افتقد النقد إلى الحكمة والاتزان. وغالبًا ما يُعلنون أهدافًا سامية لنهجهم النقدي، غير أنّهم قد يُخفون في أعماقهم مقاصد أخرى لا يجرؤون على الجهر بها، حتى أمام أنفسهم.

وهكذا فإن وراء كل فعلٍ إنساني أهدافًا متداخلة، منها ما يُعلن صراحةً، ومنها ما يبقى دفينًا في أعماق النفس. وليس المعيار فيما يُظهره الإنسان، بل فيما يحرّكه من الداخل.

ومن هنا تبرز الحاجة إلى وقفة صادقة مع الذات تكشف الدوافع الحقيقية والأهداف التي تقوده إلى النور وتلك التي تجرّه إلى العتمة.

ويبقى سؤال مهم: هل بالضرورة أن يكون الهدف الكامن سيئًا؟

والجواب قطعًا: لا؛ فالهدف الكامن قد يكون إيجابيًا ونبيلًا، بل وربما أسمى من المعلن، إلا أنه مما يستحيل البوح به أو يصعب على الآخرين إدراكه.

ما أريد التأكيد عليه هو أن تعيش دائمًا بوعيٍ لذاتك وأهدافك، وأن تكون جريئًا في إعلانها مع نفسك كأضعف الإيمان، وأن تمتلك شجاعة محاسبة نفسك عليها، سواء كانت معلنة أو كامنة؛ والأهم أن تُهذّب أهدافك، لتظلّ ضمن الطريق الذي يُرضي الله سبحانه وتعالى.

ولا ينبغي لأحد أن ينصّب نفسه مسؤولًا عن غايات الآخرين الكامنة، فهذه الغايات متصلة بعلاقة الإنسان بخالقه سبحانه، ولا يملك أحدٌ أن يحاسب غيره عليها مهما كان موقعه. فالمحاسبة في حقيقتها خالصة لله تعالى وحده، والإنسان نفسه أعلم بما يضمره في أعماقه، وإن لم يصرّح به حتى لذاته. وكفى بالله شهيدًا على سرائر النفوس، قال تعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى? نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ”القيامة، 14“.

المكاشفة الذاتية

إعلانك الصريح فيما بينك وبين ذاتك عن أهدافك الكامنة في أعماقك، هو من أبرز مظاهر امتلاكك لملكة المكاشفة الذاتية. وهي تعني أن تقف أمام نفسك كما تقف أمام المرآة، فترى صورتك الحقيقية بلا أقنعة ولا تزييف.

والمكاشفة ليست أمرًا يسيرًا، بل هي جهد كبير يتطلب شجاعة وجدًّا؛ فليس كل الناس يمتلكون هذه الملكة، بل إن معظمهم يفتقدونها. ولهذا يعيش كثيرٌ من الناس حياتهم ضمن ما يُسمّى بـ ”نظرية القطيع“؛ حياة بلا معنى عميق، لكنها تمنحهم شعورًا مؤقتًا بالراحة.

وليس الأمر مقصورًا على عامة الناس، بل حتى أولئك الذين يظهرون في المجال الاجتماعي أو الديني قد يفتقدون هذه الملكة أيضًا، إذ أن الوقوف مكشوفًا أمام الذات مسألة صعبة تتطلب مجاهدة عظيمة. ولذلك قيل إن أعظم جهاد يعيشه الإنسان هو جهاده مع نفسه.

وقد ورد عن رسول الله ﷺ قوله: «ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن خُذلتم فيها كنتم على غيرها أعجز» ”بحار الأنوار، المجلسي، ج 15، ص 140“، كما روي أنه ﷺ قال لأصحابه حين رجعوا من غزوة: «مرحبًا بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر»؛ فقيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: «جهاد النفس» ”الكليني، الكافي، ج 2، ص 8“.

وختامًا: إن مواجهتك لأهدافك الكامنة، ومصارحتك لذاتك بما تُخفيه في أعماقك، هو الامتحان الأصعب في رحلتك مع نفسك. فالمكاشفة الذاتية ليست ترفًا فكريًا، بل هي شجاعة روحية، تجعلك أصدق مع ذاتك قبل أن تكون صادقًا مع الآخرين. وحين تُعلن هدفك لذاتك، فإنك تضع خطوتك الأولى على طريق النور، حيث تصبح سيد نفسك لا أسير دوافعك الخفية.

إنها دعوة لأن تحيا بوعيٍ لا يخدعك، وبقلبٍ لا يزوّر الحقيقة، فتكون كما أراد الله تعالى لك: حُرًّا في أعماقك قبل أن تكون حُرًّا مع المحيط من حولك.