عبد القيس في نصرة الحسين
إن من مصاديق الوفاء بحق أبي عبدالله معرفة أنصاره المصطفين من الله عز وجل الذين وصلوا لمقام عالٍ حتى قال فيهم المعصوم ”طِبتُم وَطابَتِ الأرضُ الَّتي فيها دُفِنتُم وَفُزتُم فَوزاً عَظيماً“ وقد حفظ لنا التاريخ أسماء كثيرة، لكنه غفل في كثير من الأحيان عن ذكر سيرهم وتفاصيل حياتهم، وذلك مما جناه التاريخ عليهم.
نفسي فداءٌ للكماة الخيّره
طابت نفوسًا بالولا مطهّره
سخت وطابت بالفدا نفوسا
فجاوروا سبط الهدى رُموسا
قد جاوروه ها هنا قبورا
وفي الجنان قد دنوا قصورا
نعماهمُ فقد قضوا حقّ العلا
بشراهمُ فاقوا على كل الملا
ما مثلهم في الشهداء من أحد
حتّى ببدر وحنين وأُحد
- السيد محمد مهدي الخرسان قدس سره - «نافذة على التاريخ في ربع قرن، ج 6»
من جملة أولئك الأنصار الشهداء، جماعة من قبيلة عبد القيس، وهي قبيلة ربيعية عدنانية، استوطنت إقليم البحرين - الممتد من البصرة إلى عمان -، وأسلمت طوعًا، والأخبار شاهدة على ذلك، منها ما جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد ما نصه:
"وحدثني عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قالا: كتب رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - إلى أهل البحرين أن يقدم عليه عشرون رجلا منهم. فقدم عليه عشرون رجلا رأسهم عبد الله بن عوف الأشج. وفيهم الجارود ومنقذ بن حيان. وهو ابن أخت الأشج. وكان قدومهم عام الفتح. فقيل: يا رسول الله هؤلاء وفد عبد القيس. قال:، مرحبا بهم نعم القوم عبد القيس!،
ثم قال: ونظر رسول الله. - صلى الله عليه [وآله] وسلم -. إلى الأفق صبيحة ليلة قدموا وقال:، ليأتين ركب من المشركين لم يكرهوا على الإسلام قد أنضوا الركاب وأفنوا الزاد. بصاحبهم علامة. اللهم اغفر لعبد القيس أتوني لا يسألوني مالا هم خير أهل المشرق…. "
ولبني عبد القيس مواقف مشهودة ومشرفة مع النبي ﷺ ثم مع أمير المؤمنين منها ما تجلى في يومي صفين والجمل، حيث أظهر رجالهم ونساؤهم «انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 1، ص 23» معالم الإخلاص والوفاء لإمامهم
ولا يسعنا ذكر تلك المآثر في هذه الوجيزة، لكننا نشير إلى بعض من خلُصَ ولاؤهم لعلي
، منهم صعصعة بن صوحان المعروف بصلابة ولائه، وأخواه زيد وصيحان اللذان استشهدا في الجمل.
وفي كربلاء حيث لم يكن في الميدان إلا عشرات من خيرة الناس الذين تقدموا لنصرة الغريب المظلوم، كان فيهم ثلة من العبديين، نالوا الفخر في الدنيا والفوز بالآخرة.
هي مارية بنت سعد - وقيل المنقذ - وهي من بيوت الشرف والمال في عبدالقيس، استشهد زوجها وأولادها تحت راية أمير المؤمنين في وقعة الجمل، فزاد ولاؤها لأهل البيت ، فكانت تعقد المجالس في دارها ليجتمع الشيعة فيه ويتداولون أمور أهل البيت.
لما بلغها أن الإمام الحسين قد كاتب أشراف البصرة لنصرته، جعلت تبكي وتصرخ عند باب المجلس، فاجتمع الناس يسألونها عن سبب ذلك، فكان مضمون كلامها: أنا امرأة فما أصنع؟ وأنتم رجال ولا تنصرون ابن بنت نبيكم!، فجعل القوم يعتذرون بقلة السلاح والعدة، فأمرت جاريتها أن تأتيها بكيسٍ في حجرتها، فصبته فإذا هو دنانير ودراهم فقالت لهم أن يأخذوا حاجتهم ويذهبوا لنصرة الحسين، فقام للذهاب للحسين عبدالله الفقعسي وأربعة من أولاده وآخرون سيأتي ذكرهم.
«المصدر: ثمرات الأعواد، ج 1، ص 169، نساء الطفوف، ص 77»
وذكر الطبري في تاريخه «ج 4، ص 263 - مع مراعاة اختلاف الطبعات -» رواية أبي مخنف عن أبي المخارق الراسبي، قال:
”اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد أو منقذ أياما وكانت تتشيع وكان منزلها لهم مألفا يتحدثون فيه وقد بلغ ابن زياد إقبال الحسين فكتب إلى عامله بالبصرة ان يضع المناظر ويأخذ بالطريق…“
يزيد بن ثُبيط - أو نبيط أو ثبيت - كان يزيد شريفًا في قومه، وصاحبًا لأبي الأسود الدؤلي، وكان ممن يجتمع في دار مارية العبدية، وعندما شدد ابن زياد على طريق البصرة، أزمع يزيد الخروج للحسين غير آبه للخوف الذي أصاب القوم، فخرج معه اثنان من أبنائه العشرة وهما عبدالله وعبيدالله ومعهم نفر من العبديين.
وحينما وصل الأبطح من مكة حيث كان الحسين ، قصد منزل الإمام مباشرة فلم يجده فأُخبر بأن الحسين قد علم بمجيئه فسبقه إلى رحله ليستقبله، - وهذا الاستقبال يكشف عما يمتلكه يزيد من مكانة عند الإمام -، فلما التقى بالإمام تلا: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» وسلم عليه ودعا له الإمام بالخير والتحق يزيد بركبه
.
قُتل يزيد شهيدا في مبارزة وقُتل ابناه في الحملة الأولى كما ذكر ابن شهرآشوب في المناقب «ج 4، ص 113»، وذُكر اسم يزيد وابناه في زيارة الشهداء الواردة من الناحية المقدسة «إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس، ج 3، ص 73»
«السلام على زيد بن ثبيت القيسي، السلام على عبد الله وعبيد الله ابني يزيد بن ثبيت القيسي.» ولعل الأسماء صحفت في بعض نسخ الزيارة.
ورثاهم ولده عامر بن يزيد قائلًا:
يا فرو قومي فاندبي
خير البرية في القبور
وابكي الشهيد بعبرة
من فيض دمع ذي درور
وارثي الحسين مع التفجع
والتأوه والزفير
قتلوا الحرام من الأئمة
في الحرام من الشهور
وابكي يزيد مجدلا
وابنيه في حر الهجير
متزملين دماؤهم
تجري على لبب النحور
يا لهف نفسي لم تفز
معهم بجنات وحور
خرج عامر ومولاه سالم فيمن خرج مع يزيد بن ثبيط واستشهدا رضوان الله عليهما في الحملة الأولى.
وقد ذكر الشيخ السماوي في إبصار العين أنه ورد في المناقب استشهاد سالم في الحملة الأولى، غير أني لم أقف على هذا النص فيه، ولكن ذكر هذا المعنى الشيخ محمد جعفر الطبسي في الجزء الرابع من كتاب مع الركب الحسيني في تعداد شهداء الحملة الأولى.
ذُكر اسمهما في الزيارة: «السلام على عامر بن مسلم، …، السلام على سالم مولى عامر بن مسلم»
وذُكر عامر في مرثيّة الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب «المقتول يوم الحرة سنة 63 هـ» التي زادت على العشرين بيتًا:
ثم ردّوا أبا عميرٍ وردّوا
لي رشيداً وميثماً والذينا
قُتلوا بالطفوفِ يومَ حسينٍ
من بني هاشمٍ وردّوا حسينا
أينَ عمروٌ وأينَ بشرٌ وقتلى
معهمُ في العراءِ ما يدفنونا
أرجعوا عامراً وردّوا زهيراً
ثمَّ عثمانَ فارجعوا غارمينا
وأفاد السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة «ج 7 ص 70» عند ذكره بعض أبيات القصيدة أنه عنى بقوله ”عامرًا“ عامر العبدي.
ملحوظة: اشتبه بعض المؤرخين بين عامر بن مسلم العبدي وعامر بن حسان الطائي، فدمجوا نسبهما خطأً، بينما هما شخصيتان مختلفتان، والطائي لا يكون عبديًّا.
كان من الشيعة الذين يجتمعون في دار مارية، وخرج مع يزيد بن ثبيط لنصرة الإمام الحسين .
استشهد مبارزةً بعد صلاة الظهر، وقيل في الحملة الأولى قبل الصلاة.
ورد اسمه في الزيارة: «السلام على سيف بن مالك»
ذكر بعضهم أن ابن سعد في طبقاته أورد أن أمية أبا الأدهم كان من صحابة النبي ?، ثم سكن البصرة وأنجب فيها، بيد أن هذا القول فنّده السيد الأمين في أعيان الشيعة «ج 3، ص 232»، إذ نص على أنه لم يرد هذا القول في الطبقات ولا في غيره من الكتب المستقصية لأخبار الصحابة.
كان الأدهم من رواد دار مارية ومن الجماعة التي خرجت مع يزيد بن ثبيط، واختلفت الروايات في حين استشهاده، فقيل في الحملة الأولى، وقيل في مبارزة.
مما استفدته من العلامة الشيخ حلمي السنان دامت فوائده، أنه لا يلزم من وجود هؤلاء الأشخاص في البصرة أنهم من أهلها بالضرورة؛ لأن قبيلة عبد القيس - كما أسلفنا - تسكن الإقليم الممتد من البصرة إلى عمان، وكانت البصرة مركزًا للحكم والتجارة، مما يجعلها وجهة لأبناء القبيلة من القطيف والأحساء وجزيرة البحرين، لا سيما المشتغلين منهم بالتجارة.
من أجل الحيادية في السرد، وبعيدا عن العواطف التي قد تدفع الباحث إلى التحيّز لرأي أو جهة، أجد من الإنصاف أن أوضح: إن مدح هذه القبيلة وبيان مناقبها لا يعني تنزيهها عن المثالب والمعايب.
فكما وُجد من عبد القيس رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ووقفوا مع الحسين في أعظم موقف عرفه التاريخ، فقد كان في الصف المقابل أيضًا بعض من ينتسب لهذه القبيلة، ممن قاتلوا الحسين وأنصاره.
تبقى سيرة هؤلاء الأبرار شاهدةً على ما جسّدوه من تضحيةٍ ووفاءٍ لإمام زمانهم الحسين ، في سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل. وإن تذكُّر هذه السيرة ليس وقوفًا عند الماضي، بل هو بيانٌ لمعنى الولاء والموالاة لرسول الله وآله صلوات الله عليهم، وهو معنى ما زال حاضرًا جيلاً بعد جيل.