آخر الحزن ”صفر“ تبدأ طقوس الوداع
طقوس الوداع في آخر أيام الحزن ها نحن نودّع شهرا حمل في طياته الحزن والمصاب وأياما ثقيلة عاشها المؤمنون في العزاء والمواساة لمظلومية العترة الطاهرة، بعد مسيرة امتدت قرابة الشهرين منذ بداية محرم حتى نهاية صفر ينقشع غبار الأسى وتبدأ الأرواح في استشعار نسائم الفرج نعم، صفر قد رحل.
شهر صفر المعروف في الذاكرة الشعبية ”شهر النحس“ طالما ارتبط في وجدان الناس بالخوف بالأحزان وبالابتعاد عن الخطوبة أو الزواج أو السفر ولهذا لم يكن وداعه يوما عاديا، بل كانت له طقوس خاصة تمارسها المجتمعات بوعي جمعي ممزوج بالإيمان والتقليد والدعاء والخوف والرجاء.
في مناطق القطيف وما حولها اعتاد الأهالي في العقود الماضية أن يستقبلوا نهاية صفر بطقوس تراثية تسعى إلى طرد النحس وكسر الشر الذي يُعتقد أنّ الشهر قد حمله معهم وكانوا يرددون بيقين شعبي:
طلع صفر وانكسر الشر، فما هي هذه الطقوس؟
من أبرز العادات المتوارثة كانت كسر آنية فخارية أو صحون أو جرار ماء في آخر ليلة من شهر صفر وكان البعض يسكب الماء على عتبة الدار في لحظة الكسر في مشهد رمزي يحمل معاني التطهر من الشر ورفض ما حمله الشهر من هم وغم فكأنما بكسر الآنية يُكسر الحزن ويُطرد النحس ويستقبل الفرج.
وفي طقس آخر يجمع سعف النخيل الجاف ويحرق أمام باب الدار بينما يدور الأطفال حول النار مرددين أهازيج طفولية تحمل بين كلماتها أمنيات السلام واستبشارا بقدوم ربيع الأشهر الهجرية بعد الخريف النفسي الذي يجسده صفر.
كان الأطفال يركضون ويقفزون فوق النار المشتعلة وهم يرددون:
واصفيروه صفر
طلع من الحضار طفر
و”الحضار“ سور من سعف وجريد النخيل في اللهجة الدارجة، إشارة إلى السجن أو الحبس وكأن صفر في وعيهم الطفولي قد انتهت إقامته الثقيلة في منازلهم وفر هاربا فيصيح الصبية ”واصفيروه“ وكأنهم يصفرون لطرده بلا رجعة.
وفي بيت آخر كانت الجدّات يرددن:
طلع صفر بشرته وشروره
جانا ربيع بفرحته وسروره
أهازيج تجمع بين السخرية من شهر مضى واستقبال بشائر الرحمة في شهر ربيع حيث تخف الأحزان وتُزهر القلوب.
هذه الطقوس وإن بدت بسيطة إلا أنها تنتمي إلى تراث غني يحمل بُعدا نفسيا وروحيا عميقا، ففي المجتمعات التي كانت تواجه الحياة بشظف العيش وضيق الحال لم تكن الطقوس ترفا بل وسيلة لتفريغ الحزن وللتشبث بالأمل ولصنع نقطة تحول نفسية من الألم إلى الرجاء ومن الحزن إلى السرور.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الممارسات الشعبية لم تكن بديلا عن تعاليم الدين بل كانت مرافقة لها فقد كان الدعاء والصدقة والصلاة وردود الأذكار المأثورة كلها حاضرة جنبا إلى جنب مع هذه الطقوس في محاولة صادقة لدرء الشر وطلب البركة.
اليوم قلت هذه الطقوس وتوارى كثير منها خلف طريق النسيان إلا في بعض البيوت التي لا تزال تحتفظ ببعضها كنوع من الإحياء التراثي، لكن روحها لا تزال باقية في النفوس تذكرنا أن الإنسان منذ القدم كان يبحث عن وسيلة رمزية يُعلن بها بداية جديدة، خرج صفر من الدار ودخل الفرج من الباب انكسر الشر وعاد الحنين إلى الفرح.
وهكذا تبقى هذه العادات نافذة نطل منها على الماضي ونستلهم منها بساطة الناس وعمق مشاعرهم وصدق نواياهم حين كانوا يتشاركون الألم ويكسرون الجرة ”القدو“ لينكسر معها كما يعتقدون كل شر.