آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

التركيبة الثلاثية لشخصية الرسول الأعظم

عندما نقف أمام شخصية الرسول الأعظم ﷺ، تتملّكنا الحيرة: ماذا يمكن أن نكتب عن هذه العظمة التي لا يضاهيها أحد في الوجود؟ لقد أصاب الشاعر حسّان بن ثابت كبد الحقيقة حين أنشد:

وَضَمَّ الإلهُ اسمَ النَّبيِّ إلى اسمِهِ إذا قالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُ أشْهَدُ

وشقَّ لهُ مِنِ اسمِهِ ليُجِلَّهُ فذو العَرْشِ مَحْمودٌ وهذا مُحمَّدُ

وحين نتأمل هذه الشخصية الفريدة، نكتشف ثلاث طبقات من العظمة: بُعدٌ بشري يجعله قريبًا من الناس، يعيش حياتهم ويشاركهم همومهم؛ وبُعدٌ إنساني ارتقى به حتى بلغ ذروة الكمال الخُلقي؛ وبُعدٌ ملكوتي اختصّه الله تعالى به، ليكون حلقةً تربط الأرض بالسماء.

إنها أبعادٌ ثلاثة تتجلّى فيها ملامح شخصيّة هذا الإنسان العظيم.

بشرٌ مثلنا، وقدوةٌ لنا

لقد أكد الله تعالى في كتابه المجيد على أنّ الرسول الأعظم ﷺ إنما هو بشرٌ مثلنا، وذلك في آيتين عظيمتين، يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وقد تكررت بنفس الألفاظ في سورتي الكهف: 110، وفصّلت: 6. وهذا يقودنا إلى أن الإنسان في بعده البشري «المادي» لا يختلف فيه اثنان من الخلق، فكل البشر في ذلك سواء، فالبشر جميعًا يشتركون في حاجاتهم الجسدية، ومعاشهم اليومي؛ ولذا جاء في آيةٍ أخرى استنكار المشركين على نبوّة النبي الخاتم ﷺ، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ .

وهذه الصفات إنما ترتبط بالبعد البشري الذي هو مثلنا تمامًا، ولكن موضع القدوة يتجلى في كيفية التعاطي مع هذا البعد: من عنايته بجسده طهارةً ونظافةً، إلى تنظيم شؤونه المعيشية باعتدال، وإدارته لعلاقاته اليومية بوعي ورحمة. لقد جسّد الرسول الأعظم ﷺ المعنى الأسمى للبشرية المتوازنة، فكان لنا قدوة في أن نكون بشرًا على الأرض بكرامة، دون أن تنسينا مادّيتنا رسالتنا الروحية، وهنا نستحضر قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ”الأحزاب، 21“، وهذه الأسوة لا تنحصر في البعد البشري، بل تشمل جميع أبعاد شخصيته العظيمة.

إنسانيّةٌ تُذهل الأذهان

حين نقترب من إنسانيّة الرسول الأعظم ﷺ نجد أننا أمام بحرٍ عميق من الإنسانية التي تجاوزت حدود الوصف، ولذا جاءت آيات القرآن الكريم لتُبرز هذا البعد في أبهى صورة، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ”التوبة، 128“، وأبعد من ذلك يصف الله تعالى خُلق النبي الكريم بوصفٍ يُحيّر الأذهان يقول تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ”القلم، 4“، ويرتقي رسول الله ﷺ سلّم الكمالات الإنسانية ليكون رحمةً شاملةً، ليس للمؤمنين وحدهم، بل للعالمين كافّةً، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ”الأنبياء، 7“، ولذا ورد عن رسول الله ﷺ ما وصف به شخصيّته في بعدها الإنسان، حيث قال ﷺ: «إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ».

هذا البعد الإنساني من شخصيّة الرسول الأعظم ﷺ ينبغي أن يكون موضع تأمّلٍ دائمٍ لنا، لنستقي من إنسانيّته ما يرتقي بإنسانيّتنا في مختلف أبعاد الحياة وجوانبها، وإن كنّا لا نستطيع بلوغ تلك المرتبة السامية، إلا أنه ينبغي أن نأخذ منها بمقدار جهدنا وطاقتنا، وهنا نستحضر ما قاله أمير المؤمنين عن نفسه، وهو التلميذ الأول لرسول الله ﷺ: «أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ ويَسْتَضـِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اِكْتَفَى مِنْ دُنيَاهُ بِطِمرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاِجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ»، فإذا كان التلميذ بهذه المكانة السامية، فكيف تكون مكانة الرسول الأعظم ﷺ؟ لا شك أنها أرفع وأجلّ من أن تُحيط بها أذهاننا أو أن نستوعب أبعادها جميعًا.

وهذا البعد الإنساني من شخصيّة الرسول الأعظم ﷺ ليس مجرّد نصوصٌ تُتلى أو مبادئ تُدرَّس، بل هو حياة متجسّدة وسلوك عملي؛ ويكفي أن نستحضر موقفه ﷺ مع وحشيّ قاتل عمّه حمزة بن عبد المطلب ، إذ لم يمنعه الجرح العميق من أن يقبل إسلامه، بل قابل تلك الفاجعة برحمةٍ وسَعة صدرٍ، وقال له: ”غَيِّب عني وجهك“.

وهذا الموقف يظهر إنسانيّة الرسول الأعظم ﷺ في أبهى صورها: فقد جمع بين الرحمة والعدل، فلم يُلغِ أثر الجريمة من وجدانه، لكنه لم يجعل الغضب الشخصي يحجبه عن سمو الرسالة.

إنها إنسانيةٌ تُعلّمنا أن نرتقي فوق الجراح، وأن نُوازن بين العدل والرحمة، وأن نقتدي بالنبي ﷺ بمقدار جهدنا وطاقتنا، كما أوصى أمير المؤمنين : «أَلاَ وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ».

إشراقةٌ ملكوتية تتصل بالسماء

إنّ ارتباط رسول الله ﷺ بالسماء ارتباطٌ واضحٌ وجلي، فهو المرسل من عند الله تعالى، والوحي يتنزّل عليه كما كان شأن الأنبياء والمرسلين. غير أنّ علاقة النبي الأكرم بالله لم تقتصر على مجرّد تلقّي الوحي، بل تجاوزت ذلك إلى مقام العبودية الخالصة، إذ كان يُجهد نفسه في العبادة حتى تورّمت قدماه؛ فقيل له في ذلك، فقال ﷺ: «أفلا أكون عبدًا شكورًا».

وقد ورد هذا النص في الأمالي للشيخ الصدوق «المجلس 48، حديث 2»، عن الإمام الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين ، في إشارة واضحة إلى أن مقام النبي ﷺ الملكوتي كان ممهورًا بصدق العبودية وشكر الخالق سبحانه وتعالى.

صحيحٌ أن هذا المقام الملكوتي لا يُمكن أن يبلغه إنسانٌ على وجه الأرض، لكنه يبقى درسًا خالدًا لنا في علاقتنا مع الخالق جلّ شأنه؛ بأن نسعى إلى مزيدٍ من القرب منه، لعلّنا نحظى برحمته الواسعة، ويشملنا عفوه ورضاه، ويدخلنا برحمته في عباده الصالحين، فنفوز بجنّة ربّ العالمين.

وختاماً فإن شخصية الرسول الأعظم ﷺ ليست مجرّد سيرة تُروى أو تاريخ يُسرد، بل هي إشراقة إلهية جمعت بين الأرض والسماء. فهو في بُعده البشري بشرٌ مثلنا، عاش بين الناس، يفرح كما يفرحون، ويتألم كما يتألمون. وفي بُعده الإنساني تجلّت في شخصيّه أسمى معاني الرحمة والخلق العظيم، حتى غدا قدوةً تذهل الأذهان وتسمو بالأرواح. أمّا في بُعده الملكوتي، فقد بلغ من القرب من الله ما لا يُدركه وصف، ليكون عبدًا شكورًا ومصطفًى مكرّمًا.

إنها تركيبةٌ ثلاثيةٌ فريدة، متى اجتمعت في الوعي والإيمان، أنارت للإنسان طريقه نحو الكمال.

فسلامٌ على هذا النبي العظيم، يوم وُلد رحمةً، ويوم عاش إنسانيةً، ويوم عاد إلى ربّه إشراقةً ملكوتيةً باقيةً ما بقي الدهر.