الكبسة وملكة التعلم
طالما راودني سؤال حول التعليم: هل يتعلم الناس اليوم من أجل العلم ذاته؟ أم أنه لم يعد سوى وسيلة لبلوغ الرزق؟ ماذا لو أن الأرزاق كُفيت للإنسان من غير عناء التعلم، هل كان سيتجه أحد للعلم أصلًا؟ تجدد هذا السؤال في ذاكرتي أيام جائحة كورونا، حين أُتيحت الفرصة للغش بسبب غياب الرقيب أثناء الامتحانات. تلك الفترة لم تكشف فقط عن ثغرة في النظام التعليمي، بل عن خلل أعمق في المفهوم الذي تتبناه بعض الأسر اللاتي شاركت أبناءها في الغش في الامتحانات وفي حضور الحصص عوضاً عنهم: يكشف ذلك كما أرى أن العلم لم يعد قيمة في ذاته، بل أصبحت الشهادة هي الغاية. والشهادة هنا ليست سوى جواز مرور إلى تخصص يُنظر إليه كوسيلة للرزق أكثر من كونها سبيلًا للمعرفة.
في تصوري هناك ظاهرة يمكن تلخيصها في عبارة: فاشل الابتدائي متفوق الثانوي. الفكرة أن الأسرة التي تسعى خلف التفوق الشكلي تحرص في المراحل المبكرة على انتزاع العلامات من الطفل بأي ثمن. وحين يكون الطفل بطبيعته منشغلًا باللعب، تُسخّر الأم - وأحيانًا الأب - كل وسيلة لتلقينه لا لتعليمه، فيظهر التفوق المبكر وكأنه إنجاز حقيقي. لكن المتفوق في هذه الحال ليس الطفل بل أسرته. وما إن يكبر هذا الطفل ويصبح مسؤولًا عن نفسه حتى ينكشف ضعف أساسه، إذ يفتقد أهم ما كان ينبغي أن يُغرس فيه منذ البداية وهو ملكة التعلم. وهكذا تتشكل أجيال قد تحمل شهادات ودرجات، لكنها لم تتعلم يومًا كيف تتعلم، ورأت في التفوق مجرد خطوة مرحلية نحو رزق مؤجل. ولو أن التعليم وُجِّه منذ الصغر إلى غرس حب المعرفة وتنمية القدرة على البحث والفهم، لكان المآل مختلفًا تمامًا. ومن هنا فإن الطفل الذي قد يبدو فاشلًا في صغره لأنه اعتمد على نفسه بدرجة أكبر، يصبح في المراحل الدراسية المتقدمة أكثر نضجًا علميًا ومهارة، لأنه امتلك ملكة التعلم، فصار متفوقًا حقيقيًا لا شكليًا.
لست هنا لأنكر أن العلم قد يكون وسيلة إلى الرزق، لكن جوهره أعمق من ذلك بكثير. إن بناء ملكة التعلم في الطفل منذ الصغر يقوم على التوجيه لا التلقين. وليس عيبًا أن تنخفض درجاته في مراحله الأولى، فالمهم أن يتعلم كيف يعتمد على نفسه. التفوق الحقيقي هو الذي يصنعه بجهده، لا ذاك الذي تصنعه له أسرته. علموا أبناءكم كيف يتعلمون، وجّهوا خطاهم، امنحوهم فرصة البحث والخطأ والتجربة. فالنجاح لا يُقاس بالعلامات المبكرة، بل بامتلاك القدرة على التعلم مدى الحياة. أما مطاردة الدرجات الشكلية فليست إلا وهمًا، يشبه ذلك تماماً كما اعتقد كبسة شهية تقدم على أنَّها من صنع اليد في حين أنها من مطعم قريب.