كنجراتشوليشنز
نشر أحد الأصدقاء في إحدى منصات التواصل الاجتماعي خبرًا يستحق التهنئة، فانهالت عليه التعليقات التي تبارك له بكلمة واحدة تتكرر: كنجراتشوليشنز «congratulations». تساءلتُ حينها: ما الذي منع أحد إخوتنا العرب من أن يكتب له ببساطة ”مبروك“؟ فلم أجد سببًا مقنعًا. خالفت سيل التهاني، وكتبت له بلغتي العربية، مدركًا أنني قد أُتّهم بعدم مواكبة ”لغة العصر“. والحقيقة أنني كنتُ، وما زلتُ، أتأمل في مفهوم سلوك القطيع: ذلك الذي يجعل الفرد يتصرف بما يحاكي سلوك الجماعة، لا عن وعي أو دليل، بل عن تقليدٍ أعمى. ثم بدا لي أن من أبرز أمثلته أولئك النقّاد الذين يهاجمون ما يظنونه سلوكًا جماعيًا بلا وعي؛ إذ قد يكون بعضهم قد تبنّى هذا الموقف النقدي لا عن تفكير مستقل، بل لأن غيره فعل. وهكذا، قد يمتهن أحدهم النقد اتباعًا لقطيع من النقّاد، دون أن يمنح نفسه فرصة ليسأل: هل أنا على صواب بدليل؟ أم فقط أؤدي دور المستقل في مشهد تقليدي آخر؟
الاعتراف بأن مجتمعاتنا العربية والإسلامية لم تبلغ بعدُ المستوى الذي ينبغي أن تكون عليه هو، في ذاته، خطوة صحية ومطلوبة. فعلى مستوى الجامعات العالمية الأعلى تصنيفًا، لا تزال دولنا متأخرة. وفي ميادين براءات الاختراع، والتكنولوجيا، والصناعة، نواجه فجوات واضحة. لكن هذا الواقع، بدل أن يدفع البعض إلى تطوير الفهم والعمل، جعل شريحةً من الناس تقع في فخ النقد الشامل لكل ما هو محلي أو مرتبط بالهوية، دون تمييز بين القيم التي تستحق الحفاظ، وبين نقاط الضعف التي تحتاج إلى إصلاح. ومن هنا أقول: بناء طريق أو جسر جيد لا يتطلب منا تغيير قيمنا وأخلاقنا، بل فقط فهمًا علميًا لطريقة البناء، وفقًا لطبيعة البيئة والاحتياجات الواقعية. وكذلك، بناء مستشفى ناجح لا يقتضي التخلي عن الأخلاق، بل يتطلب معرفة المعايير الصحيحة، وتوفير الكوادر المؤهلة، والإدارة الفعّالة. إنّ المشكلة الأساسية ليست في الدين أو الهوية، بل في غياب المعرفة بمنهجيات التقدم. هذا الغياب هو ما يجعل بعض النقّاد - انسياقًا وراء سلوك قطيع من الناقدين - يهاجمون مظاهر اجتماعية أو ثقافية زاعمين أنها عوائق، في حين أن نقدهم هذا لا يستند إلى فهم، بل إلى مسايرةٍ فكرية قد تكون هي العائق الحقيقي.
ليس استخدام كلمة كنجراتشوليشنز بدلًا من ”مبروك“ هو ما ينهض بالأمم، ولا غياب المرأة عن معرض تشكيلي هو ما يعيق تقدمها. فالتقدم لا يُقاس بهذه الظواهر الثقافية السطحية، بل ببناء المنظمات على أسس علمية واضحة: قيادة جيدة، موارد بشرية كفوءة، التزام بمعايير الجودة، وقدرة مالية. تلك هي الأعمدة الأربعة التي تنهض بها المؤسسات، ومنها تتقدم المجتمعات. أما حين يأتي ناقد لينسب أسباب التخلف إلى ما يسميه ”سلوك القطيع“ في مظاهر اجتماعية جزئية، فهو - في كثير من الأحيان - إنما ينتقد ما يمارسه دون وعي. فالتقدم لا يتحقق بمطاردة الرموز الثقافية أو الاجتماعية، بل بفهم كيفية النهوض الحقيقي من داخل المنظومات. وكثير مما يُطرح من قضايا اجتماعية لم يكن، في حقيقته، سببًا في التخلف؛ بل قد يكون مجرد واجهة نقدية، سهل تكرارها، صعب تفكيكها.