محمد سعيد المسلم رحمه الله: صوت الوفاء وأيقونة الثقافة في القطيف
في تاريخ القطيف والخليج، لا تُذكر الثقافة دون أن يُستحضر اسم محمد سعيد المسلم، رحمه الله، ذاك الرجل الذي لم يكن مجرد كاتب أو مؤرخ، بل ذاكرة حية لمرحلة كاملة، وصوتًا إنسانيًا نقيًا في زمنٍ قلّت فيه الأصوات الصافية، وضميرًا ناطقًا بثقافة الوطن وهموم الناس.
وُلد محمد سعيد بن موسى بن ضيف حسن بن علي بن عبد الله آل مسلم في حي السدرة من قلعة القطيف، يوم الجمعة 12 صفر 1341 هـ الموافق 15 أكتوبر 1922 م، في أسرة ميسورة الحال ذات عراقة في التجارة وأملاك في النخيل. وقد ورد ذكر أسرة آل مسلم في مؤلف ”دليل الخليج العربي“ للوريمر «1908» كإحدى الأسر ذات الوجاهة والمكانة في جزيرة البحرين.
رغم ما خلفته الحربان العالميتان من آثار اقتصادية واجتماعية، نشأ رحمه الله في بيئة علمية وثقافية متميزة. كان والده صارمًا في تربيته، متأثرًا بتجارب الفقد، بينما كانت والدته ”الزهراء الماحوزي“ مصدر إلهام حقيقي له، امرأة قوية، محبة للعلم رغم مرضها المزمن، ومتصلة بإرث علمي من جدّه الشيخ محمد الماحوزي.
نشأ في كنف مجالس العلماء والمثقفين، وأتم حفظ القرآن الكريم في سن السابعة، ودرس النحو والبلاغة والعلوم الشرعية على كبار علماء القطيف. اتسم منذ صغره بالهدوء، والانضباط، وعمق التفكير، فكانت هذه اللبنات أساسًا في تكوين شخصيته الثقافية والأدبية.
أحتفظ في ذاكرتي بلحظة من الطفولة لا تغيب عني، كنت فيها برفقة والدي، علي بن رضي الأسود، رحمه الله، أثناء عمل الأستاذ محمد سعيد المسلم، رحمه الله، في بنك الرياض. كانا صديقين حميمين، جمعت بينهما علاقة نقية لا تشوبها مصلحة.
ورغم صغر سني، لا زلت أذكر تلك الهيبة الهادئة التي كان يحضر بها الأستاذ محمد سعيد المسلم رحمه الله. حديثه المتزن، وصوته الخافت، ونظراته العميقة، كلها كانت تترك انطباعًا لا يمحى. لم يكن كثير الكلام، لكنه كان إذا تحدث أنصت الجميع؛ لأنه يتكلم بفكر ناضج وخلق عظيم.
لم يكن رحمه الله منطويًا على كتبه، ولا منعزلاً عن الناس. كان قريبًا من الجميع، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، ويتفاعل مع نبض المجتمع. كان مثقفًا عضويًا بالمعنى الحقيقي، ينتمي إلى قضايا الناس، ويكتب من صميم واقعهم، لا من برجٍ عاجي.
لقد عُرف محمد سعيد المسلم، رحمه الله، بوفائه اللامحدود؛ لأصدقائه، وأسرته، ولمجتمعه. لم يكن من أولئك الذين تنساهم الذاكرة، بل ممن يُخلَّدون في القلوب قبل الأوراق. كان ذا خلق رفيع، وهيبة نابعة من تواضعه وعطائه، لا من مظهر أو منصب.
ما يجعل الحديث عن أبي فايز رحمه الله أكثر خصوصية بالنسبة لي، أن العلاقة لم تنقطع بوفاته، بل امتدت إلى نجله العزيز فايز المسلم، الذي يمثل امتدادًا صادقًا لإرث والده القيمي والإنساني.
عرفته عن قرب، فوجدته رجلًا يعمل بصمت، ويخدم مجتمعه بإخلاص، متجردًا من الأضواء، حاضرًا في كل ميدان خيري وإنساني، مجسدًا بسلوكه أن الخير لا يُورّث فقط، بل يُجسَّد يومًا بعد يوم.
ترك الأستاذ محمد سعيد المسلم، رحمه الله، عددًا من المؤلفات التي تُعد اليوم من المراجع الأساسية في التاريخ والأدب والثقافة في منطقة الخليج، وعلى وجه الخصوص في القطيف. ومن أبرزها:
1. ساحل الذهب الأسود
• أشهر أعماله، وهو كتاب توثيقي مهم يغطي التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي للقطيف ومنطقة الخليج العربي. يُعد مرجعًا لا غنى عنه للباحثين في شؤون المنطقة.
2. واحة على ضفاف الخليج
• كتاب يجمع بين الطابع الوثائقي والإنساني، يرسم فيه صورة ثقافية واجتماعية عن القطيف وأهلها، ويعكس نظرته العميقة للهوية والمكان.
3. شفق الأحلام «ديوان شعري»
• يضم مجموعة من القصائد التي عبّر فيها عن مشاعره الإنسانية وتأملاته الوجدانية بلغة شاعرية راقية.
4. عندما تشرق الشمس «ديوان شعري»
• ديوان شعري ثانٍ أكمل فيه ما بدأه في ”شفق الأحلام“، بأسلوبه المتأمل العميق، وتعبيره المرهف عن الحياة والواقع.
5. كتاب التأبين «صدر بعد وفاته»
• يتضمن كلمات ورثاء وقصائد ومقالات كُتبت عنه بعد وفاته، في حفل تأبيني كبير أقيم لتخليد ذكراه، ويعكس مدى أثره في قلوب المثقفين ومحبيه.
ورد في بعض المصادر خطأً نسب كتاب ”تبسيط النحو العربي“ للأستاذ محمد سعيد المسلم، رحمه الله. والصحيح أن هذا الكتاب ليس من مؤلفاته، ولم يُعرف عنه الانشغال بالتأليف في مجال النحو أو تبسيطه. مؤلفاته تركزت في الشعر، والتوثيق الاجتماعي، والتاريخ المحلي والثقافة العامة.
وبعد وفاته رحمه الله أقيم له حفل تأبين، وصدر كتاب يضم مواد التأبين من شعر ونثر.
في 2 مايو 1994، فارق محمد سعيد المسلم، رحمه الله، هذه الدنيا، لكن بقي أثره شاهدًا على قامة لم تتكرر. ترك سيرة عطرة، وكلمات خالدة، لا تزال تُقرأ وتُستشهد بها، ليس فقط لبلاغتها، بل لصدقها وعمقها.
رحل الجسد، لكن بقي الأثر، وكأن لسان حاله يقول:
”من يزرع الكلمة الصادقة، يحصد الخلود في القلوب.“
حين أستعيد صورته القديمة في ذاكرتي وأنا طفل، ثم أربطها اليوم بما خلفه من فكر وأدب وسلوك، وما أراه حيًا في ولده فايز، أوقن أن بعض الناس لا يُقاس عمرهم بالسنوات، بل بما قدّموه من قيم.
رحم الله محمد سعيد المسلم رحمة واسعة، وجعل علمه وعمله من الباقيات الصالحات.
وأدام على ابنه فايز الصحة والتوفيق، وأعانه على مواصلة هذا الإرث الإنساني النبيل.