عدنان العوامي… الصوت الخافت الذي دوّى في سماء الشعر
في عالمٍ تتعالى فيه الأصوات وتزدحم الكلمات، يظهر شاعرنا عدنان العوامي كالنجم الهادئ الذي لا يلهج بصراخ، لكنه يضيء الليل بنوره الفريد.
حضور هذا الرجل الصامت، وصوته الخافت، لا يشبهان إلا عظمة الكلمة التي لا تحتاج إلى صخب، ليترك أثره خالدًا في ذاكرة الشعر والأدب.
لقد وقفت عن قرب مع هذا الإنسان النادر في مجالس الأدب والمنتديات الثقافية، حيث يتحدث بهدوء لا يقبل الاستعجال، وعيناه تبحران في تفاصيل الحياة، وكلماته تنسج بحكمة معانٍ تختزنها ذاكرة عمر من المشاعر والتجارب.
وُلد عدنان العوامي عام 1936 في قرية التوبي بالقطيف، أرض الشعر والكرامة.
تلك الأرض التي ترعرع فيها، لم تكن مجرد مكان ولادة، بل كانت مهدًا لصوت إنساني يلتقط أنفاس الماضي، ويرى أفق المستقبل.
من هناك، انطلق العوامي ليصبح واحدًا من أعمدة الشعر السعودي، قائدًا في التجديد، ومحتفظًا بجذوره العميقة.
إن تجربة العوامي ليست مجرد قصة شاعر أو كاتب؛ إنها رحلة إنسان يُحسن الرسم بالكلمة، ويخلع على كل بيت من أبياته ثوب الحكمة والصدق، ويمنح اللغة العربية دفء الحياة وروح الحداثة.
في زمن تراجع فيه صوت القصيدة العمودية لصالح قصائد التفعيلة الحرة، وجد العوامي في العمود قاعةً لاستقبال صوته الخاص، الذي يمزج بين الالتزام بالوزن والقافية، والحرية في المعنى والإحساس.
لقد كان دائمًا يرفض التقيد الجامد، فكان العمود عنده معبرًا عن صوت العصر، لا سجنًا للخيال.
ديوانه ”شاطئ اليباب“ لم يكن فقط ديوانًا شعريًا، بل كان إعلانًا عن شاعر وجداني يكتب عن معاناة الإنسان، وأحلامه، وهواجسه، وصراعه مع الوحدة والغياب.
أما ديوانه الأخير ”ينابيع الظمأ“، فهو انعكاس لنضوج روحي وفكري، حيث وجد العوامي في الشعر منصةً للحوار مع ذاته والعالم، يطرح قضايا وجودية وإنسانية من قلب الحداثة، لكنه يبقى متمسكًا بجماليات الماضي.
عندما قرأ وزير الثقافة والأديب الكبير الدكتور غازي القصيبي ديوان ”شاطئ اليباب“، لم يتردد في مدح شاعر القطيف، فكتب:
”عدنان العوامي شاعر سعودي يحاكي كبار شعراء العرب، كأنه نسمة رقيقة في صحراء الشعر الحديث، يحمل هموم الإنسان بقلب رقيق وعين ثاقبة. إنه حقاً غريب في زمن غريب.“
هذه الكلمات ليست فقط تقديرًا لشاعر، بل شهادة لشخصية إنسانية عميقة، تتجسد فيها قدرة الكلمة على تغيير الواقع وتهذيب الروح.
حضوري الدائم لمجالس العوامي الثقافية يجعلني أشهد أن رجلاً بهذه القوة والعمق يمكن أن يكون صامتًا بصوته، لكنه مدوٍ بحضوره.
أتذكر كيف كان يتحدث بصوتٍ منخفض جداً، رغم أن كلماته كانت تزلزل المكان.
هو لا يتحدث ليملأ فراغًا أو ليحصل على اهتمام، بل يتحدث لأن لديه رسالة حية تنبع من نبض ذاته، ينقلها برقة وأدب لا يكشف عن رغبته في تصدّر المشهد، بل يجعلك أنت تكتشف أهمية حديثه بنفسك.
محبة عدنان العوامي لا تنبع فقط من موهبته الشعرية، بل من إنسانيته التي تجعله قريبًا من الجميع، من المثقف والطالب، إلى الرجل العادي الذي يقرأ له في المجالس أو عبر ديوانه.
هذه المحبة جالت مناطق شتى داخل المملكة وخارجها، فالعوامي لم يكن مجرد شاعر يُقرأ، بل كان قامة تُحترم، وصوتًا يُسمع، وروحًا تُحب.
في زمن تكسرت فيه الروابط بين الناس والمبدعين، ظل العوامي شامخًا بحاضنة شعبية كبيرة تمتد عبر الحدود.
لم يقتصر دور العوامي على كتابة الشعر فقط، بل كان ناقدًا ومترجمًا وموثقًا، حيث حقق دواوين لشعراء قطيفيين كبار، وأثرى المكتبة العربية بمؤلفات وأبحاث أدبية جعلت منه مرجعًا ثقافيًا مهمًا.
كل ديوان له، وكل تحقيق، وكل مقال، هو إضافة نوعية لمشهدنا الأدبي، تجسيد لنضج فني وثقافي قلّما نجده في شاعر واحد.
تكريمه من منتديات ثقافية ووزارات، لا يُقاس بما يُعطى من أوسمة، بل بما يحمل من احترامه وتقدير المجتمع الثقافي والشعبي له.
فالعوامي هو ذلك الصوت الذي لا تحتاج كلماته إلى من يصيح بها، لأن صدقها يعبر عن ذاته بقوة.
إنه العوامي، الرجل الذي يعلّمنا أن العظمة ليست في علو الصوت، بل في عمق المعنى وصدق التعبير.
هو نموذج خالد لمن يؤمن بأن الشعر الحقيقي هو ذاك الذي يحكي الإنسان بإنسانيته.
كم هو محظوظ هذا الزمن الذي شهد وجودك يا عدنان، وكم نحن محظوظون بأن نحتفي بك، نقرأك، ونستلهم من حضورك المضيء رغم صمتك.