موسم عاشوراء في القطيف وفي كربلاء...
موسم عاشوراء يحتل مكانة خاصة في قلوب الموالين لأهل البيت ، فهو ليس ذكرى عادية، بل هو خاص جدًا، إذ حثّ أئمة أهل البيت
على إحيائه بإصرار وجدية لا نظير لها. وفي كل مدينة يقطنها الموالون، يتجلى هذا الموسم بطريقته الخاصة، تختلف تفاصيله وأشكاله، لكن القاسم المشترك يبقى واحدًا: الحزن الممزوج بالجزع على فراق سيد الشهداء، والرغبة في التعبير عن الوفاء والولاء في كل لحظة، واستلهام العزة والكرامة والشموخ من مواقف سيد الشهداء وأصحابه.
على مدى السنوات الماضية، كانت لي فرصة زيارة مدينة القطيف في السعودية خلال أيام عاشوراء، حيث يشكل الموالون لأهل البيت الغالبية من سكانها. وفي هذا العام، وفقني الله لزيارة كربلاء في أيام عاشوراء، فكان لي أن أقارن بين هاتين المدينتين في طريقة إحياء هذه المناسبة الأليمة.
في القطيف، تبرز ظاهرة المجالس الحسينية التي تحيط بالمدينة كأنها بحر لا نهاية له، إذ يقدّر بعض المطلعين أن عدد المجالس اليومية قد يصل إلى ألف مجلس. رقم يثير الدهشة ويعكس حجم الالتزام والحرص على إحياء هذه الذكرى، كما يشير إلى وجود أعداد جيدة من المبلّغين سددهم الله. لكن علينا ملاحظة أن أغلب الخطباء لا يكتفون بمجلس واحد، بل قد يقرأ أحدهم ثلاث أو أربع مجالس في اليوم الواحد. وبالمقابل، فمن الصعب الجزم بأن نصف هذا العدد من المجالس الحسينية يقام في مدينة كربلاء، بل إن مراسم عاشوراء في كربلاء تفتقر - وبصورة ملحوظة - من حيث الكم إلى المجالس الحسينية، كما أنها تفتقر إلى التنوع أيضًا. فأغلب المجالس الحسينية فيها هي مجالس مخصصة لقراءة التعزية والمقاتل، وقد يتخلل بعض تلك المجالس شيء من الوعظ والإرشاد أو بعض الفتاوى الفقهية.
بينما نجد أن هناك تنوعًا ثريًا في المجالس الحسينية في القطيف، فهناك المحاضرات الفكرية المعمقة التي تحرص النخب المثقفة على حضورها، وهناك مجالس تاريخية يتم تناول الأبعاد التاريخية فيها لا من حيث السرد التاريخي فحسب، بل ويصاحبها كثيرًا من التحليلات المرتبطة بالحدث الكربلائي. هذا بالإضافة إلى المجالس التي يغلب عليها طابع الوعظ والإرشاد، وأخرى تتناول التحديات الاجتماعية المختلفة. هذا التنوع يعكس وعيًا عميقًا بأهمية عاشوراء، ليس فقط كذكرى، بل كمنصة للتفكير والنقاش حول مختلف القضايا الإسلامية. كما أن طريقة تنظيم المجالس في القطيف تختلف أحيانًا عن التقليد المعتاد، فيبدأ بعض الخطباء مباشرة في الموضوع دون الحاجة لقراءة القصيدة أولًا، مما يعكس مرونة وثراء في التعبير والتواصل.
ومن الأمور الأخرى اللافتة للنظر في القطيف شيوع ظاهرة المآتم الرجالية التي تقام في المنازل. فعلى الرغم من كثرة الأماكن العامة التي تقام بها المجالس الحسينية، فإن الكثير من الأسر تعوّدت على إقامة مجالس أخرى في منازلها، وذلك في العشرة الأولى من شهر محرّم الحرام. إن هذه المجالس تعكس عمق التواصل الاجتماعي والروحي، وتغني التجربة الحسينية بتفاصيلها الخاصة. ولذا، فيحق لنا أن نطلق على القطيف بأنها صاحبة ثراء لا نظير له في عدد المجالس الحسينية وتنوعها.
على الجانب الآخر، كربلاء، هي مركز الحزن والذكرى، تتميز بطريقة أخرى في إحياء عاشوراء، وهي كثرة المواكب الحسينية التي تجوب الشوارع. ومع كل خطوة، ينبض القلب بذكرى الألم والتضحيات. هذه المواكب، التي تلتزم بأشكالها التقليدية، تحمل نغمة حزينة عميقة، تملأ الأجواء برهبة تلامس الروح.
لكن لا شيء يمكن أن يضاهي وقع سماع مقتل سيد الشهداء في صباح يوم عاشوراء في تلك البقعة المقدسة. ففي صبيحة ذلك اليوم يجتمع الناس في حرم الإمام الحسين وفي الأزقة المجاورة له وفي الحسينيات والبيوت، يستمعون بكل مجامع قلوبهم لكلماته الخالدة: ”لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد“، ويستمعون لتلك الصرخة التي ما زال يرددها أحرار العالم: ”هيهات منّا الذلة“. كما يستمعون لكل المحن التي عاشها الإمام الحسين
في ذلك اليوم قبل عدة قرون من الزمن. وحين يدرك الإنسان أنه يقف على نفس تلك الأرض التي روّاها بدمه الطاهر، تتحول الذكرى من سرد تاريخي إلى تجربة حيّة تنبض في أعماق الوجدان، تثير المشاعر وتملأ القلب بالحزن العميق، وتشبعه إيمانًا بقيم العزة والإباء.