اللسان… نار تُشعل وخير يُصلح
كم من كلمة خرجت من فم إنسان فحوّلت صديقًا إلى عدو، أو بدّدت خصومة وأعادت المودّة؟ كم من كلمة عابرة أطفأت نارًا مشتعلة، وأخرى بسيطة أشعلت نارًا لا تنطفئ؟ هكذا هو اللسان؛ صغير في حجمه، عظيم في أثره.
الكلمة الطيبة أشبه بنسمة هواء في حرّ شديد، أو قطرة ماء في عطش طويل. كلمة شكر صادقة، أو دعاء خالص، أو اعتذار نابع من القلب، قادرة على أن تُحيي ما مات في النفوس. كثيرون لا يذكرون ملامح من قابلوهم، لكنهم لا ينسون كلمة طيبة قالها أحدهم في لحظة ضعف أو تعب. تلك الكلمات تظل معلّقة في الذاكرة كضوء لا يخبو.
وعلى الجانب الآخر، الكلمة السيئة كجمرة حارقة؛ تلسع من تصل إليه، وتترك ندبة لا تزول. قد تكون كلمة استهزاء، أو خبرًا صحيحًا نُقل بلا حكمة، أو إشاعة باطلة تُتداول بلا روية. كم من بيت تشتت بسبب كلمة، وكم من صلة دم قُطعت بخبر سيئ قيل على عجل! الأخطر اليوم أن وسائل التواصل الاجتماعي جعلت الكلمة أسرع انتشارًا من النار، فخبر يُكتب في ثوانٍ قد يصل إلى آلاف الناس، ويثير جدلًا أو يزرع فتنة لا يمكن السيطرة عليها.
لكن اللسان ليس لعنة بالضرورة، بل يمكن أن يكون وسيلة إصلاح عظيمة. كلمة صادقة قد تعيد ثقة مفقودة، وكلمة عفو قد تُذيب جبال الجفاء، وكلمة مودة قد تُعيد بناء جسر تقطّع. قال الإمام علي «تكلّموا تُعرفوا، فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه». فالكلمة تكشف معدن الإنسان أكثر من شكله أو منصبه أو مظهره.
في حياتنا اليومية، نرى أمثلة واضحة: موظف بكلمة لطيفة يفتح بابًا من التعاون مع زميله، وآخر بكلمة قاسية يغلق أبواب الثقة. جار يثير نزاعًا بين أهل الحي بنقل الأخبار كما هي أو محرّفة قليلًا، وآخر بكلمة حكيمة ينهي الخلاف ويزرع الودّ. كلنا شهود على هذه المواقف، وكلنا نملك اللسان ذاته، لكننا نختلف في طريقة استخدامه.
وهنا تكمن المسؤولية: كل كلمة تخرج من أفواهنا بذرة تُزرع في أرض القلوب. إمّا أن تُثمر شجرة طيبة تظلّل الجميع بخيرها، أو تتحول إلى شوكة تؤذي وتجرح. الأمر ليس مجرد عادة لغوية، بل موقف أخلاقي يُحدّد كيف يرانا الناس، بل وكيف نحيا نحن أنفسنا.
فلنحرص أن تكون كلماتنا مطفئة للنار، لا وقودًا لها. ولنختَر أن نكون بناة بالكلمة، لا هادمين بها. فالكلمة الطيبة لا تموت أبدًا، بل تعود إلى صاحبها نورًا وسلامًا، بينما الكلمة السيئة لا تلبث أن تعود إليه دخانًا وظلامًا.