آخر تحديث: 16 / 8 / 2025م - 10:29 م

هدوء الداخل

ياسين آل خليل

كثيرًا ما نظن أن أنظار الناس مسلّطة علينا، وأن خطواتنا مرصودة ومحسوبة. لكن الحقيقة التي نغفلها هي أن الجميع منشغل بأعبائه، يلهث خلف لقمة العيش، ويصارع تقلبات الحياة كما نفعل نحن تمامًا. لسنا تحت المجهر كما نتخيل، ولسنا في بؤرة اهتمام من لا يملكون وقتًا لأنفسهم أصلًا. التخفّف من هذا الوهم ليس ضعفًا، بل بداية لفهم أوسع.. أن راحة البال تبدأ حين نكفّ عن افتراض أن العالم يراقبنا.

في داخل بعض النفوس، يتربّص قلقٌ خفي، يُصور للإنسان أن عيون الناس لا تغفو عن مراقبته. فيتردد في قراراته، ويخشى أن يُساء فهمه، ويُعيد النظر في خطواته مرارًا، لا لشيء إلا ليرضي صورة رسمها في ذهنه عن ”نظرة الآخرين“. لكن من يعيش أسير هذا الظن، يُهدر أجمل ما فيه، ويُضيع لحظات كان أولى أن يُهديها لنفسه، لا لتوقعات غيره.

الواقع بسيط وإن بدا معقدًا، الناس في الغالب لا يفكرون بك كما تتصور. ليس لأنك بلا قيمة، بل لأن كل واحد منهم يعيش صراعه الخاص. من يتعامل مع أعباء العمل، ومن يسهر على راحة أسرته، ومن يخوض حربًا صامتة مع نفسه، هؤلاء لا يملكون فائضًا من الوقت والانتباه ليصرفوه على تقييم الآخرين. نحن نظن أننا مركز اهتمامهم، في حين أنهم بالكاد يلاحقون تفاصيل يومهم.

ما من أحدٍ إلا ويحمل في داخله مشاغله وآلامه، حتى من يبدو متفرغًا للحديث عن غيره. قد نُصاب بالذهول حين ندرك أن بعض من نحسبهم يراقبوننا، لا يروننا أصلًا. ليس من تجاهل أو احتقار، بل لأن أعينهم مثقلة بما يكفي. ومن العبث أن نُفرط في تحليل نظراتهم، بينما نحن أنفسنا بحاجة لمن يفهمنا بلطف ويعاملنا برحمة.

أولئك الذين يتفرغون للحديث عن غيرهم لا يفعلون ذلك بدافع اهتمام، بل هروبًا من فوضاهم الداخلية. فلا تجعل من نفسك مادة للهاربين، ولا تنزلق إلى نفس الدوامة. من ينجو بنفسه من دوامة التقييم المستمر، يمنح عقله فسحة ليتنفس، ويجد مساحة أوسع ليكون كما يريد، لا كما يُراد له أن يبدو.

الحرية النفسية لا تتحقق في عزلةٍ عن الناس، بل حين تتصالح مع فكرة أن رضاهم الكامل ليس مطلوبًا ولا ممكنًا. حين تتوقف عن مراقبة ردة فعل كل من حولك، تبدأ بترميم علاقتك بذاتك. فتتسع رؤيتك، وتدرك أن الحياة أثمن من أن تُختزل في محاولات إرضاء من لا يعرفون ظروفك.

في نهاية المطاف، لن يبقى معك إلا نفسك. فاجعلها أوّل من تُصغي إليه. لا تنسى أن هناك قلبًا في داخلك يحتاج إلى طمأنينة، وعقلًا يستحق أن يُوجَّه إلى ما يبني ويُصلح. لا أحد يعيش مكانك، ولا أحد يملك مفاتيحك إلا أنت. فامضِ في طريقك واثقا متسقا، واعلم أن الحياة لا تنتظر أحدًا.