آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 11:59 ص

عبد الستار الموسى فنان مبدع يرحل بصمت

عبد العظيم شلي

كنتُ بالأمس أتصفح قروب جماعة الفن التشكيلي بالقطيف، وإذا بي أقرأ سيرة فنان على هيئة نقاط أشبه بالمحطات المختزلة، ولأنني على اطلاع كامل حول سيرته الفنية، وجدت محطة هامة غير مذكورة وددت أن أبينها للأعضاء، وهي الاحتفائية بمعرضه الأول بعد عودته لأرض الوطن لغربة دامت 31 عامًا، معرض تبنت إقامته جماعة الفن التشكيلي بالقطيف على صالة مركز الخدمة الاجتماعية بمحافظة القطيف، وقد افتتحه الشاعر الكبير عدنان العوامي يوم الخميس 20 أبريل 2012، وقد شاركته زوجته الفنانة الروسية «نتاليا ستنيلاففنا ريدر»، وكان عنوان المعرض «من صحراء الدهناء إلى ثلوج سيبيريا».

وبينما كنت أستعد لتبيان ذلك، وإذا بصورة الفنان تُنشر في القروب باللونين الأسود والأبيض، ومكتوب أسفلها: «إنا لله وإنا إليه راجعون».

معقوووول هذا الخبر! تواصلت مع الفنان حسن أبو حسين لأتأكد منه، فهو من نشر السيرة والصورة. أجابني بأن الخبر صحيح ومبثوث في «الأحساء نيوز»، نسخ إعلان الوفاة من الصحيفة الإلكترونية، وأرسله لي للتأكيد. وعلى عجل، فتحت صفحة الوفيات في ”قطيف اليوم“، وأقرأ صيغة النبأ الصادم.

سادني الصمت، ودخلت في حالة من الحزن والأسى مجددًا، فقد حاولت أن أتحرر منهما بعض الشيء على أثر رحيل والدتي منذ عدة أشهر. ما أقسى عذابات الرحيل المفاجئة!

رحل إنسان عزيز على قلبي، تعرفت عليه حديثًا لكن صار التقارب بيننا حبله متينًا كأننا نعرف بعضنا من سنين، فتح لي قلبه وخزين أسراره ومكابداته الحياتية ودراسته الأكاديمية، وعلى أثر ذلك كتبت عن سيرته بشيء من التفصيل عبر 35 حلقة نُشرت في ”قطيف اليوم“ عام 2019 م تحت عنوان: «الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى».

وكانت الخطة أن تُنشر كل الحلقات في كتاب حسب رؤيته وحماسته لكتاب مزود بالصور واللوحات وبعض الإضافات من هنا وهناك، لمستجدات من حراكه الفني. حلم ظل معلقًا إلى أن يأتي الظرف المناسب لتحقيقه في يوم ما، ها وقد جاء خبر رحيل صاحب الشأن، الفنان عبدالستار الموسى. بالأمس أتحاور معه لترتيب ذلك الحلم، واليوم أتحاور مع من؟!

ما أقسى الأيام التي تباغتك برحيل الأحبة واحدًا تلو الآخر! هل تلوم الزمن أم تلوم نفسك بمراوحة التواصل وتقطعه حينًا؟

الفنان عبدالستار الموسى خرج من أرض النخيل والعيون عام 1975، خرج من بلاد هجر ليهاجر للاتحاد السوفيتي لدراسة الفن، ولأن الحلم البروليتاري سكن روح الشاب وهو على مقاعد الثانوية، وبتفتق الوعي على أطروحات سلامة موسى الجدلية، طار لبلاد البلاشفة تحت جنح الظلام متخفيًا عن الأهل وعيون العسس، مارًا من بلد إلى بلد، واصلًا للساحة الحمراء، ملقيًا التحية للمطرقة والمنجل، مؤمنًا بالشعار الأممي «يا عمال العالم اتحدوا»، مشمرًا عن ساعديه ليتعلم الفن على يد عمالقة فناني الشعب. دراسة لا هوادة فيها ولا تكاسل، إما أن تكون أو لا تكون.

أتقن اللغة الروسية بطلاقة، ودخل في المعمعة؛ التحدي الأكبر إتقان المهارة الفنية على أسس علمية صحيحة، مأخوذًا بالواقعية الاشتراكية ومثلها العليا، الفن في خدمة المجتمع، فلا يسمح بفن التهريج، مثل التجريد العبثي بسكب الألوان كيفما اتفق، كما تبنته مدرسة نيويورك عبر جماعة جاكسون بولوك، وهي حرب باردة عبر الفن قادتها أمريكا، وجندت لها النقاد والمنظرين والمسوقين مدعين بأن حرية الفنان مطلقة وفوق كل اعتبار، لا حدود لتعبيره، وهذا ما قاله مؤرخو الفن بعد انتهاء المعسكر الشرقي وسقوط الجدار الحديدي.

عندما بدأ عبدالستار الموسى دراسته معتقدًا بأنه فنان نافش ريشه — حسب وصفه — أسمعوه أساتذة الجامعة كلامًا حازمًا، وقالوا له: «انسَ بأنك فنان، ما تملكه من مهارة لا يتعدى إمكانيات هاوٍ يتسلى لتزجية الوقت». فهم النصح بالسمع والطاعة، ماشيًا على هدي الكبار داخل الحرم الجامعي وخارجه، حيث المتاحف تقدم فنون أساطير الفن الروسي في المدن الكبرى، وحدائق وميادين تزينها نصب جمالية لرموز ثورة أكتوبر والنصر في الحرب العظمى بهزيمة النازية، تمجيد طاغٍ في كل بلدة وإقليم، والثقافة الاشتراكية محرضة على الإبداع في الأدب والشعر والمسرح والسينما والسيمفونيات، فبرزت أسماء مبدعة سطعت في كل مجال متكئة أساسًا على إرث حضاري ممتد عبر قرون.

من هذه الأجواء الفاتنة تشبع الشاب عبدالستار الموسى فنًا وثقافة رصينة. روحه الجادة والمثابرة دراسيًا مكنته من نيل البكالوريوس والماجستير، متخصصًا بفن الجرافيكس على مدى سبع سنوات قضاها على مقاعد الدراسة بصبر وتأنٍ، مكتسبًا فنًا ومعرفة ومهارة أكاديمية عالية، قطف خلالها وردة شابة، فنانة موهوبة أصبحت شريكة عمره وهو لم يزل طالبًا، وهي المتخصصة في التصوير وكتب رسوم الأطفال — القصص المصورة — فكان التنافس على أشده بينهما، أثمر عن إقامة معارض مشتركة في موسكو والأوكرانية وأبوظبي والقطيف والدمام وداخل أرامكو.

عبدالستار عاش حياته بالطول والعرض من أجل الفن، ولا غير الفن، لا يمر يوم مع زوجته إلا ونقاش متجدد حول الفن وآفاق التشكيل، وكلٌّ ينقد عمل الآخر قبل أن يراه الجمهور. لديه قدرة بالتصوير الزيتي مريحة وجاذبة بصريًا، واللوحة عنده تحمل دلالة ومعنى وذات عناصر واضحة، لا تعقيد ولا غموض فيها، والمحور الأساس في جميع أعماله هو الإنسان بكده وسعيه وحزنه وفرحه وسيرة حياته اليومية، أمينًا للواقعية الاجتماعية بشكل عام، التي تنحاز للشعب، وفي نظره اللوحة يجب أن يفهمها كل الناس ويتذوقها الجميع.

تتجلى مهارته العالية بتقنيات فن الجرافيكس، ويعتقد الفنان المصري أحمد إمام، المتخصص بفن الجرافيكس، حيث يقول: «عبدالستار الموسى أفضل فنان سعودي في فن الجرافيكس، لا يضاهيه أحد».

استلهم عبدالستار من موروثات بيئته وأخرج أغلب كنوزها ضمن تكوينات متعددة، وبالفعل امتلك الموسى ناصية فن «الجرافيكس» بعلم وخبرة ودراية، واكتشف تقنية غير معروفة من قبل، وهي الحفر على الكرتون بطريقة مبتكرة، جمع كل تقنيات الجرافيكس الأساسية مثل الليتوغراف «الرسم على الحجر»، والأفورت «الحفر على النحاس والزنك»، واللينوليوم «الرسم على الكاوشك»، وأفضت به هذه الخلطة العملية إلى تقنية جديدة لم يسبقه أحد من قبل، فكرة رائدة أهلته للحصول على درجة الماجستير، وهو مشروع التخرج من أكاديمية سوريكوف.

يتمتع عبدالستار بإنتاجية في هذا الفن، ولديه ألبومات عديدة اطّلع عليها المقربون، لم تعرض للعامة. يمتلك الفنان حساسية عالية بقراءة أي عمل فني يراه من خلال النظرة الأولى، صريح في رأيه، لا يجامل ولا يداهن أحد، يرمي كلامه على أساس فني دون أي اعتبار لردة فعل الآخر، الأمر الذي أوقعه في إشكالية الفهم. هو لا يتقصد الهجوم على شخص الفنان، إنما تقييم العمل الفني في حد ذاته.

إذا اقتربت من شخص عبدالستار وعاشرته ستكتشف اطلاعه الواسع في أمور عديدة: في الأديان والعقائد، وتحولات التاريخ، وتقلبات الأمم، واختلاف الأجناس والأعراق، ويصرح بما يؤمن به دون مواربة.

ولديه فلسفة فنية ممتعة اكتسبها من أساتذته، من ضمنها: «عندما تصل لمرحلة ما في إنجاز العمل الفني وجب عليك أن تتوقف، وإذا واصلت تعتبر كل إضافة زوائد لا لزوم لها». ومن مقولاته التي وثقتها عبر سيرته المعنونة بـ «الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى — اقتبس من حلقة 5»، حيث يقول الموسى: «ليس الفن رسمًا فحسب، ولكن هاجسًا يحمل صورًا شتى من المعاني والأفكار»، وأضاف: «أن تمتلك قدرة أو مهارة ما، شيء مطلوب وضروري، ولكن كيف تفعل اشتغالك بثقافة التطلع إلى ما وراء العمل الفني، وتقرأه بصورة مغايرة وغير اعتيادية».

وأيضًا لديه مئة طريقة لتحضير العمل الفني بمختلف الخامات وتنوع الأدوات، من فن الفريسكو والفسيفساء إلى النحت والريلييف، وليس انتهاء باللوحات المسندية.

عبدالستار أشبه بموسوعة فنية ثقافية متنوعة، نثر جزءًا منها في جلسات أربعائية السليمان على مدى عشر سنوات. مبهر في فنه، مبهر في مغامراته، حيث كان لديه استوديو في مدينة ماريوبول المطلة على بحر أزوف، توقف عن المجيء إليه بعد أن نشبت الحرب الروسية الأوكرانية في إقليم دونتيسك المتنازع عليه.

عبدالستار كثير الإنجاز في كل مكان، فقد رسم حياة العمال، خصوصًا المنقبين عن النفط في صحراء الربع الخالي، حيث تواجدت الشركة الروسية التي انضم إليها بعد مجيئه للمملكة سنة 2006 م، أنتج أعمالًا آسرة حيث تشعر بجمال الصحراء في أوقات مختلفة.

بعد أن أُحيل للتقاعد، انكفأ في بيته في الدمام بحي المحمدية يرسم بشكل يومي، وانتقل أيضًا إلى جنوب سيهات في بيت آخر، وحين اشترى بيتًا في حي الفيصلية بالدمام بعد أن تخلص من هموم الإيجار، أصبح عنده مكانًا أوسع ليمارس الفن برفقة زوجته الفنانة نتاليا، تنافس أثمر عن إنجاز أعمال لم يرها أحد، كانا يعتزمان على إقامة معارض مشتركة قادمة في روسيا والمملكة وفي أرض الله الواسعة، لكن يد المنون خطفته من أحبائه ومن إكمال طموحاته.

مثل المملكة في عدة مناسبات فنية داخل المملكة وخارجها، تنبه له المؤرخون السعوديون متأخرين، وعدوه أحد القامات الفنية التشكيلية الكبيرة.

بالأمس رحل فنان مبدع لم يحظَ بالتكريم في بلده!