نسايم صيف
عبارات يرددها أولادي في مثل هذه الأيام التي تشتد فيها الحرارة وتبلغ الرطوبة مداها، فكلما دخلوا البيت أو خرجوا منه، يسمعوني صدى تذمرهم:
«اف اف.. ويش هالحر.. ويش هالجو.. جونا لا يُطاق..»، هم خبروا هذه الأجواء وليست جديدة عليهم، ويدركون بأن عرقهم سيتبخر بعد لحظات بمجرد ضغطة زر «ريموت» المكيف والتحكم في مستويات برودته، سواء في البيت أو في العمل أو أثناء قيادة السيارة.
أقول لأولادي وأترابهم وكل من في أعمارهم، هذا هو جونا منذ أن وعينا على الدنيا، وهذه طبيعة جغرافية منطقتنا منذ آلاف السنين، لكن سعير الحر فيما مضى قبل أن تأتي إلينا المدنية برفاهيتها كان أقسى وأمرّ، لا ملجأ لنا من سطوته، نتعايش مع لواهيبه لحظة بلحظة وساعة بساعة، وما أن ينجلي عنا إلا وقد استنزف قوانا وأنهك أبداننا.
بالنسبة لي وأقراني ولمن يصغروننا قليلًا فقد عشنا بين زمنين، أي قبل وبعد دخول الكهرباء للمنازل، وحين أتت لم نعرف شيئًا اسمه مكيفات، فقط مروحة سقفية مزعجة، تحرك الهواء الساكن بينما الحرارة ذاتها، شبه تلطيف لحيز محدد، ربما هي أحسن حالًا من مراوح الخوص التي تجهد الكفوف، «بانكة» متدلية ثابتة، بينما المهفة نحملها أينما تحركنا داخل البيت أو خارجه.
«صيف لول» إذا أتى وبلغ «لخواهر» أشده يشوي أجسادنا كسياط من لهب، «حصف» وهي حبيبات صغيرة جدًا تنتشر على الظهر وأحيانًا تغطي الجسم كله، والتخفيف منه السباحة في مياه البحر، وتنقض «أم الزيغة» لدى البعض وهي احتكاك عند الفُخُوذ ينشأ عنها تباطؤ في المشي «فلان يمشي مفوشح وياه أم الزيغة» رشة فودر تخدر الألم، ويبادلنا عبدالله أبو سرير أبي يونس، توصيفات الحال «ويش اليوم، طبخة» نردفها «وعچة»، يعاودها «صهجة»، يصورها حسن أيوب «فوحة».
ونسمع أصوات النساء الحاملات جنين في البطن ونگلة ثياب على الرأس «گلبي يسفگ سفاگ» أي تزداد ضرباته من شدة الحر وبؤس المعاناة، لكننا مع الحر بين كرّ وفرّ.
تنداح الذاكرة عن صور مبللة بعرق أيام الگيض، يقول الشيخ عيسى بن راشد: «أحس يالگيض ما أن لرديت ترجعني العمر أصغر»، حين كنا صغارًا ما أن تشتد الحرارة بسعيرها، نلجأ لحمام تاروت، هب، ارتماءً «رواسي أو گلة» في حضن الماء، نراه صديقًا وفيًا وأمًّا رؤومًا كالنهر يفيض علينا برادًا من فرح ونشوة تتجلى فيه أجسامنا حياة من نعيم، يكثر بيننا الهرج والمرج و«لمطابب والمدازز»، يموج سطح الماء و«يتطشر» مثل النوافير فيأخذ نصيبه من المارة، بلل على الثياب والبضاعة المتناثرة على الضفتين، تأتينا أحيانًا اللعنات من الباعة ورجال الحمارة المجاورين للحمام.
وإذا استشاط أحدهم يحمل في يديه قشر «جحة» ليقذفها على رؤوسنا نختبئ تحت الجسر اتقاء من ضربات «لفلوح»، بسبب لعبنا الطائش والزائد عن حده، تتحول حواف الحمام لوحل وكذا تطال الطريق الترابي.
ذات مرة ارتشحت ثياب رجل عابر فوجه لنا كلامًا فاحشًا وأزعج وأزبد، وبينما هو كذلك زلقت رجلاه ورأسه سقط في الحمام، تبعنا سباحة لكن ملابسه تعيقه للحاق بنا، البعض فرّ هاربًا باتجاه منطقة سباحة الحمير وآخرين سلكوا حمام باشا خارجين عبر درجاته الضيقة واختبؤوا في مسجد العين.
ما كان يضيق بنا الصيف لولا وفرة المياه، هاهي دروب البساتين نستظل بنخيلها ونلتقط رُطَبها الساقط أرضًا، وأينما اتجهنا في ربوع جزيرة تاروت تنادينا العيون الارتوازية المنتشرة على امتداد المساحة الخضراء، نرتمي في حوض عين وعين وماء «البلبة» يتدفق كشلال منهمر، ضحك ولعب وسوالف وألغاز وحكايا على إيقاع انهمار الماء الذي لا يتوقف ليل نهار، نبقى ساعة ساعتين وربما أكثر لدرجة أن أصابع أرجلنا وأيدينا «تفشفش» كأن هزالًا أصابها، أكثر ما يزعجنا كثرة «الحراسين» التي تنهش جرحًا أصابنا نتيجة سقوط على الركب أو صواب في الأيدي أو «غشاية أم سليچ» في باطن القدم، نتأذى كأن شخصًا يوخزنا بمسلاة أو «يفلصنا» بطريقة حادة، لكن الأسماك الصغيرة كانت تداوي جروحنا، هو الماي يداوينا من سموم الگيض يريح أبداننا المتعبة من الشقاوة.
ذات مرة سكن مزاحنا بعد أن أقبل الشاب علي فسيل بسيكله السلستيل الجديد وضعه جانبًا ترك فوطته على مقعد دراجته وحمل الراديو ووضعه على ناصية حوض العين، نزل الماء وهمّ بحلاقة لحيته وهو ينظر وجهه في مرآة مصغرة وإذا بأغنية لعبدالحليم تنبعث من المذياع، هدوء سادنا ونحن نترنم على وقع الموسيقى وكلمات الأغنية تطربنا:
«إن اتيت الروض يوما لا تلمني
فمن العطر انتشيت
إن جنيت الورد عفوا لاتلمني
فعلى الشوك مشيت
لا.. لا تلمني
اوملأت الافق شدوا لا تلمني
في فمي لحن الوفاء
او عشقت البدر يوما لا تلمني
فأنا اهوى الضياء
لا.. لا تلمني
أنا للاقدار عبد لا تلمني
كيف سارت بي حياتي
جئت من طين ولكن لا تلمني
فمن الاضواء ذاتي
لا.. لاتلمني»،
انتهت الأغنية وإذا بصوت المذيع بصوته الرخيم «هنا إذاعة البحرين، حان الآن وقت أذان الظهر»، قمنا من عين الجشي تباعًا والتي تقع جنوب منطقة الوقف، مبللين لا ملابس نظيفة نلبسها ولا فوطة تجفف أجسامنا، عاودنا ارتداء ثيابنا المتسخة ترابًا وعرقًا، ثم نزعنا هافاتنا وعصرناها عصرة ثم وضعناها على رؤوسنا اتقاء من وهج الشمس، نمشي ونلتقط لوزة متدلية من حضار نخل ونقطف حبات رطب أصفر وأحمر، نلوك المضغ والكلام ضحكًا وكأن الدنيا ملكنا، ما أن نصل لبيوتنا وعند عتبات الباب كل يلبس هافه الذي جف ماؤه.
لكن الماء على وفرته لا يصل لكل البيوت، وإن وصل لا يلبي احتياجات السباحة ولا لغسل الملابس، تنتشر النساء في عين «هرهر» وعين «العوينة» وأكثرهن في «عين العودة» للاستحمام وتوابعها أي المتفرع منها شمالًا «لرملي» الملاصق لحمام باشا، وغربًا «الحلقوم» وجنوبًا «الطرفاية» واصلًا الماء لأغلب النخيل من جميع الجهات وعلى امتداد العانات، نرى النسوة منهمكات في غسل «المواعين» وفرك الملابس واستحمام الرضع والصغار.
أمهات يسابقن الوقت بين دروب الغسل والطبخ وتربية الأولاد، ومع اشتداد الحرارة يفررن من بيوتهن ويفرشن حصيرة تحت ظلال الساباط يتبادلن أطراف الحديث وينسفن الرز ويشربن الگدو، ومهفة الخوص في أيديهن لا تتوقف عن الحراك.
وإذا أقبل الليل نذهب للمنامات الموزعة على سطوح المنازل وهي مبللة من كثافة الرطوبة، ننتعش فرحًا وكأننا نسبح على بساط من ماء، نعد النجوم من شدة صفاء السماء فلا أغبرة ولا دخان يحجب عنا رؤية الكواكب.
وأصوات الجيران نسمعها، فلا أصوات مكيفات ولا طنين سيارات يزعجنا، نتغزل في ضوء القمر ونسترسل في نوم العافية، يوقظنا صياح الديكة فجرًا وأصوات الأذان تتردد في الآفاق ونسائم الصباح تسكرنا نشوة حياة، نباشر مهامنا بشراء الخبز الساخن من خبازين البلد، نغمسه في أكواب الحليب الطبيعي من أبقار المزارع وعند الضحى أكلة «البيوتة» قوامها عيش ولبن طازج، نركض على الدروب الرطبة التي لم تعرف قسوة الأسفلت بعد وعيوننا مشبعة باللون الأخضر، أهل صيف لول قلوبهم ملأ طيبة وحمية ولحن مودة.