”نعال الأب: حين يسقط الخوف من علٍ“ 2/2
في مسرح الطفولة، كان للأب دور البطولة في مشهد نادر الظهور، كثير الهيبة. لا يتدخل كثيرًا، لكنه حين يتدخل… تنقلب موازين العالم. وإذا كان نعال الأم طائرة بدون طيار، فنعال الأب… هو القاذفة الاستراتيجية بعيدة المدى، التي لا تُطلق إلا في أقسى الظروف.
النعال الأبوي لا يركض خلفك. لا يتعب. لا يختبئ. لا يتسلل. بل يسير نحوك بهدوء جهنمي. خطواته تصنع زلازل في الروح، وتحفر على أرض البيت تاريخًا جديدًا للعائلة.
كنا، نحن الأطفال، نعرف الفرق.
نعال الأم = هجوم سريع وتعليم لحظي.
نعال الأب = حرب نفسية، ورد اعتبار شخصي، ومؤتمر قمة تأديبي.
وغالبًا لا يصل النعال إلى الهدف، بل يكفي أن يخلعه الأب بهدوء ليبدأ عرض ”الندم المسرحي“:
”والله ما كنت أقصد!“
”بس كنت ألعب!“
”هو اللي قال لي!“
”أنا صغير… وبكرا بكبر وبعقل!“
لكن لا فائدة… ف ”نعال الأب“ يعلّق فوق رؤوسنا كقانون فيزيائي: لا يُكسر إلا حين تتكسر حدود الأدب.
لأنه نادر الاستخدام.
ولأنّ الأب لم يكن يصرخ مثل الأم، بل يُصدر صمتًا مُرعبًا أكثر من ألف صرخة.
ولأنه لم يكن يركض، بل يكتفي بالنظر… فينزل الصمت على البيت كقطعة ثلج سقطت في قدر يغلي.
ذلك النعال كان:
• قرارًا سياديًا صادرًا عن مجلس الأمن الأسري.
• عقوبة غير قابلة للاستئناف.
• ودرسًا طويل المدى يُدرّس في جامعة الحياة، تحت مقرّر ”احذر إذا شال نعاله“.
في كثير من الحكايات، سقط نعال الأب في غير محله…
أصابت فردته ”أخي التوأم“، الذي يشبهني تمامًا، بينما كنت أنا المختبئ تحت السرير أضحك بخبث، ثم أبكي تضامنًا.
لكن ما إن تُكشف الحقيقة، حتى تتحول فردة النعل إلى صاروخ تصحيحي، لا يعود إلى القاعدة إلا بعد إصابة الهدف الرئيسي.
ويا ويل من يضحك وقت العقوبة…
فذلك إعلان حرب، يحوّل البيت إلى ساحة تدريب ميداني، تتطاير فيها النعل، وتُزال فيها الحصانة البرلمانية عن كل طفل.
لكن أين هو اليوم؟
أين ذلك الأب الذي إن سعل، نام الجميع؟
هل اختفى؟
هل أصبح النعال ذكرى تُروى في المجالس؟
هل تبدّل ذلك الصولجان الجلدي بنقاش لطيف وحوارات هادئة لا تؤتي أُكُلَها؟
تحوّلت العلاقة من رُعب مقدّس إلى صداقة مفتوحة… وهذا جميل، لكن له تبعات.
لم يعد الطفل يهاب شيئًا… لكنه أصبح هو من يرمي النعال على الشاشة إذا خسر في لعبة إلكترونية.
أصبح النعال بأيامنا أداة لوضع الجورب، لا لوضع الحدود.
بغياب ”رمزية النعل“، غابت التربية ربما، فغابت رهبة الخطأ.
لم يعد للغلط سعر، ولا للعقوبة طعم.
أصبح الوالد يستأذن من طفله ليقنعه أن يذاكر، ويفاوضه على النوم، ويشجعه على الأدب كما تُشجّع فرق الدرجة الثانية!
فقدنا شيئًا ما… ليس الضرب، بل الرمز.
رمزية أن هناك سقفًا لا يُخترق، ورجلاً لا يُكذب عليه، ونعالاً لا يُستهان به.
لا، بل نُعيد ”الهيبة“.
فلنعد النعل إلى مكانه الرمزي: فوق الباب، يراه الجميع… لا كتهديد، بل كتذكرة.
ولنُعد الأب إلى مكانه الوجودي: ليس شرطًا أن يضرب، ولكن لا يجب أن ”يُضرب به المثل في الضعف“.
لم يكن ذلك النعل جلداً على الجسد، بل كان جلداً على ”التمادي“.
كان قطعة من قميص الرجولة، يرتديها الأب ليمنحك انتماءً.
ولم يكن يؤلم بقدر ما يُقيم حدودًا بين العبث والاحترام.
فإلى أولئك الآباء الذين خلعوا نعالهم ذات يوم… وأعادوها بهدوء دون أن يستخدموها،
نقول: كفى بخلعكم وحده ردعًا…. وكفى بصمتكم تربية.