آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

دعني أُخطئ بطريقتي!

هاشم الصاخن *

بلغني خبر عن شخص عزيز عليَّ، أكنّ له الودَّ وأخاف عليه كما أخاف على نفسي، و”نمون“ عليه كما يُقال.

قيل لي: قرر أن يشتري منزلًا في منطقة لا تصلح للعيش أصلًا، أو قرر بناء منزل واتفق مع مقاول لا يحمل سجلًا نبيلاً في مثل هذه المشاريع، أو قرر الزواج من أوَّل تعارف وكأن العمر لا يحتمل الانتظار، أو أن يهاجر إلى بلد لا تصلح لنا نحن كمسلمين لا دينيًا ولا اجتماعيًا، أو يختار تخصصًا دراسيًا لا علاقة له بميوله أو قدراته، أو يُقدِم على مشروع طلاق في لحظة توتر عابرة، أو أنَّه تسلَّم قيادة منشأة وكأنَّها لعبة ”مونوبولي“، أو حجز رحلة سياحيَّة إلى بلدٍ خرجت منه قبل أشهر وما زلت أتعافى من صدمتها، أو قرر أن يترك عمله ويتقاعد رغم أنَّ بإمكانه الاستمرار والعطاء لسنوات أخرى.

وبما أنَّ الرَّجل صديق أو قريب أو ”غالٍ على القلب“، فقد شعرت أنَّ من واجبي أن أُوجه إليه، بلطفٍ ومحبَّة، بعض اللافتات التحذيريَّة التي تُشبه تلك التي نراها على الطُّرق:

انتبه.. منعطف خطر - أعد التفكير قبل الإقدام - أعد الحسابات فالندم مكلف.

لكن المفاجأة التي تتكرر كل مرَّة: تُستقبل نصيحتي وكأنَّها تدخل فجٍّ في خصوصيَّة القرار، وتأتيني الردود الجاهزة:

أنا غيرك - كلُّ تجربة تختلف - النَّاس أذواق - أنا أعرف نفسي - أنت شخصيتك لا تناسبني - دعني أعيش بطريقتي، حتَّى لو أخطأت، وبالطبع، لا مانع من ابتسامة عريضة يختتم بها كلامه، وكأنَّه انتصر في مناظرة فلسفيَّة.

وهنا، وقبل كلِّ شيء، لا بد أن نُقِرّ ونعترف بأنَّ لكلِّ إنسان في هذه الحياة حريَّة القرار والاختيار، في كلِّ ما ذُكر آنفًا من أمثلة، سواء قرر الزَّواج أو السفر أو التقاعد وهو بقدرته الاستمرار، أو شراء منزل في منطقة لا تصلح للعيش، أو بناء منزل وقرر أن يتفق مع مقاول لا يحمل سجلًا نبيلاً بهذه المشاريع، أو الهجرة إلى بلد لا تصلح لنا نحن كمسلمين، أو اختيار تخصص دراسي، أو الإقدام على الطَّلاق، أو قيادة منشأة، أو السَّفر للسياحة لبلد معيَّن، أو شراء سيارة، أو ترك العمل، أو اتِّخاذ مصير لقيادة منشأة، أو أشياء أخرى شبيهة…

لكن فحوى حديثنا هذه المرّة ليس انتزاع تلك الحرية؛ بل يتعلَّق بلحظة صادقة: حين نرى من نحبّ مقبلًا على قرار نعرف، يقينًا، أنَّه يخطئ فيه وهو لا يعلم.

نرى الخطأ بعين التَّجربة، أو بدروس الواقع، أو بمواقف مشابهة مررنا بها أو سمعنا بها أو احترقنا بنارها ذات يوم، ومع ذلك، حين نحاول أن ننصحه، فليس تدخلًا ولا تطفّلًا؛ وإنَّما لأن بيننا وبينه رابطة: صلة قرابة أو صداقة، وخوفًا عليه مما سيترتب عليه من عواقب لا تُحمد عقباها، خاصَّة إذا كان قد قرر بطريقة خاطئة ونحن على علم مسبق بالنتائج غير المرضيَّة.

لكن ما يحدث في كثير من هذه المواقف، هو أنَّ النَّصيحة تُقابل بجدار من التبرير والدفاع، وكأننا لم نُقدِم على نصح صديق أو قريب؛ بل تدخلنا في أمرٍ محرَّم الدخول إليه!

وتبدأ الردود المعتادة بالظهور، متتابعة كما لو كانت محفوظة عن ظهر قلب: أنا غير عنك، كل تجربة تختلف، الناس أذواق، أنا أعرف نفسي، أنت شخصيتك ما تناسبني، دعني أعيش بطريقتي حتى لو أخطأت، بل وقد يُختتم الأمر بابتسامة ودودة ظاهرًا، لكنها تقول بوضوح: شاكرين ومقدّرين، لكن لن أغيّر قراري!.

والسؤال هنا: لماذا يرفض البعض النصيحة، حتَّى لو كانت واضحة كالشَّمس في عزِّ النَّهار؟

أحد الأسباب هو أنَّ بعض النَّاس يعتقد أنَّ قبول النَّصيحة اعتراف ضمني بأنَّه لا يعرف كلَّ شيءٍ، وهذا عنده أشبه بالخسارة في مباراة نهائية، ولا ننسى الكبرياء الذي يجعل صاحب القرار يتمسك به، ليس لأنَّه الأفضل؛ بل لأنَّه قاله أمام الناس، وتراجعه سيعني في نظره، اهتزاز صورته.

وأمَّا الطامة الكبرى، فهي حين يخلط البعض بين ”الحرية“ و”العناد“، فيظن أنَّ الإصرار على الخطأ دليل استقلاليَّة، بينما هو في الحقيقة أقرب إلى الانتحار البطيء… لكن... برضا كامل!

السعيد حقًا هو من يجد قريبًا أو صديقًا ينصحه، فيتأنّى ويدرس نصيحته قبل الإقدام، بينما البعيد عن النَّاصح الأمين قد يقع في الخطأ ثمَّ يقول: ”ليتني وجدت من ينصحني“.

وفي النِّهاية، ها هو الواقع يقدِّم الدَّليل لكلِّ من قال: ”دعني أُخطئ بطريقتي“؛ فمن اشترى منزلًا في منطقة لا تصلح للعيش عانى من العزلة، ومن بنى مع مقاول سيئ بدأ يرمم الجديد، ومن هاجر إلى بلد لا يناسبنا عاد بندم، ومن اختار تخصصًا لا يشبهه سأمَه سريعًا، ومن طلَّق في لحظة غضب دفع ثمنًا باهظًا، ومن قاد منشأة بلا خبرة خسرها سريعًا، ومن سافر لبلد حُذّر منه عاد يحذّر غيره، ومن تقاعد وهو قادر وجد الفراغ أثقل من العمل.

هكذا، تتشابه النهايات وإن اختلفت البدايات… ويبقى السؤال: هل كان الخطأ أجمل حين ارتكبته بيدك، أم كان أجمل لو تجنبته بعقل غيرك؟

وأنتَ أيها القارئ… هل ندمت أنَّك قرأت هذا المقال؟

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 5
1
محمد يوسف آل مال الله
[ عنك ]: 11 / 8 / 2025م - 11:19 ص
سلمت أناملك أيها السيد السامق، كلام في الصميم وأزيدك شعرًا… هناك من يقول لك مو شغلك عندما تحاول أن تنصحه.
لست نادمًا لقراءتي هذه المقالة، بل سعيدًا أن أخبرك أنني أشاطرك الرأي.

دمت سالمًا ودام يراعك عاليًا
2
عبدالله درويش
11 / 8 / 2025م - 3:16 م
يا أستاذ هاشم أنا من النوع اللي جرب ينصح بحب وانصدم من الردود الجاهزة! كلامك عن “أنا غيرك” و”كل تجربة تختلف” حسيته ينطبق على مواقف كثيرة مريت فيها. أحييك لأنك قلتها بصراحة: أحيان العناد مو حرية هو تدمير بس بطريقة ناعمة.
3
ليلى شبر
11 / 8 / 2025م - 7:03 م
أنا شخصيا شفت كثير من الناس اللي وقعوا في نفس الأخطاء اللي انت ذكرتها وأقسم لو كان أحد نصحهم بصدق وسمعوا ما صار اللي صار. مشكلتنا أن الواحد يحسب التراجع إهانة لصورته مع أن الذكاء الحقيقي في مراجعة القرار قبل فوات الأوان.
4
منى
[ سنابس ]: 11 / 8 / 2025م - 9:38 م
الطرح جميل لكن أرى أنك لم تتطرق كفاية لكيفية تقديم النصيحة بشكل يتقبله الآخر. فطريقة الإلقاء قد تجعل حتى النصيحة الذهبية ثقيلة على السمع. لو أضفت هذا البعد سيكون المقال أكثر تكاملا.
5
علي حماد
11 / 8 / 2025م - 10:29 م
أنا حسيت المقال يعكس ثقافة مجتمعنا بشكل صريح... نحب ننصح ونخاف على بعض بس بنفس الوقت نتضايق إذا أحد حاول يوجهنا. تناقض غريب!
سيهات