آخر تحديث: 14 / 8 / 2025م - 1:59 م

حبة عند اللزوم

ياسر بوصالح

استوقفني مؤخرًا مثلٌ شعبيٌّ متداولٌ في عشائر جنوب العراق يقول: ”العشيرة اللي ما بيها مخبّل، عوفها.“ [1] 

مثلٌ ساخرٌ في ظاهره، عميقٌ في دلالته؛ إذ يشير إلى أن الجماعة التي يغلب عليها التعقّل والحكمة قد تفتقر إلى الجرأة أو المبادرة في لحظات الحسم، فوجود ”المخبّل“ لا يُعدّ ذمًّا، بل هو رمزٌ للاندفاع غير المحسوب، الذي قد يكون، في بعض السياقات، ضرورةً لكسر الجمود أو لفتح بابٍ أغلقته الحكمة الزائدة.

ويوازي هذا المثل العراقي مثلًا مصريًّا دارجًا يقول:

”البيت اللي مفيهوش صايع، حقه ضايع.“

أقول — ومع فائق الاعتذار للقارئ الكريم إن بدت الألفاظ دارجةً أكثر من المعتاد — كلا المثلين يعكس إدراكًا شعبيًا لحاجة الجماعة إلى عنصرٍ غير منضبط، لا ليُفسد النظام، بل ليمنع ركوده.

وهنا يبرز السؤال المُلح: هل نحتاج فعلًا، في بعض شؤوننا الشخصية أو العائلية، إلى من يُحرّك المياه الراكدة ويعيد ضبط إيقاع الفوضى؟

لعلّ الإجابة تأتي من المثل الشامي الشهير: ”إذا ما كبرت، ما بتصغر.“

وكأنّ التهور، في بعض الأحيان، هو البوابة الوحيدة للنجاة من عقلانيةٍ خانقة، أو من نظامٍ بات عاجزًا عن التجاوب مع الواقع.

بطبيعة الحال، تبقى هذه الأمثال خلاصة تجارب شعوب، وليست بالضرورة أن تكون دقيقة في كل الأوقات؛ فلعلها وافقت سياقًا أو حدثًا معينًا يناسب الاستشهاد بها، لكنها لا تصلح أن تكون قاعدةً مطلقة.

ومن هنا، يبدو جميلًا أن نحتكم إلى التاريخ، وإلى تراثنا الحكمي والروائي، ليفصل لنا وجه الدقة، ويكشف حدود المبالغة أو مواضع الصواب.

أما من التراث الروائي، فتحضرنا حكمة منسوبة إلى الإمام علي بن الحسين ، وردت بصيغة:

«ضلّ من ليس له حكيم يرشده، وذلّ من ليس له سفيه يعضده» [2] 

وهي حكمة دقيقة تشير إلى أن الرشد لا يتحقق إلا بمشورة العاقل، وأن من لا يجد من يردّ عنه السفهاء يُهان، لأن الحكمة وحدها قد لا تكفي دائمًا في مواجهة الوقاحة.

ويُحتمل أن يكون مكحول الشامي — وهو من علماء الشام في طبقته الزمنية — قد التقط هذا المعنى من تراث الإمام السجاد ، ولو بطريق غير مباشر، إذ يُروى عنه قوله: ”ذلّ من لا سفيه له.“

جاء ذلك تعليقًا على موقفٍ دافع فيه أحدهم عن أخيه الفقيه سليمان بن موسى، حين تطاول عليه رجل، فردّ عليه ردًّا صارمًا، فقال مكحول عبارته تلك، وكأنما يُقرّ بأن الحِلم لا يُجدي في كل مقام، وأن السفه المدروس قد يكون ضرورةً لصون الهيبة حين تُوشك على الانكسار، ولنعم ما قاله ابن المقرب، وكأنه يُترجم المثل الشعبي إلى لغة الفصحى:

وَالحِلمُ في بَعضِ المَواطِنِ ذِلَّةٌ فَاِصفَح وَعاقِب وَاِعجَلَن وَتَأَيَّدا

ما كُلُّ حِلمٍ مُصلِحٌ فَلَطالما غَرَّ السَفيه الحلمُ عَنهُ فَأَفسَدا

وهنا يحسن أن نستدعي مثالًا آخر، لا من الأمثال هذه المرة، بل من حياة المعصومين ، يخدم الفكرة وإن لم يتطابق معها لفظًا: فالنبي الأعظم ﷺ، في أيام مكة، كان يُرمى بالحجارة والتراب بتحريض من الكبار، عبر صبيانٍ أغروا بذلك، فشكا الأمر إلى عليٍّ ، فقال له: ”بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إذا خرجت فأخرجني معك.“

فخرج معه، فلما تعرض له الصبيان، هجم عليهم عليٌّ ، وكان يقضمهم في وجوههم وآنافهم وآذانهم، فكانوا يرجعون باكين، يقولون: ”قضمنا علي، قضمنا علي.“

ومن هنا سُمّي بـ ”القُضَم“ [3] ، أي الذي يقضم، وهو من القضم بالأسنان، لا بمعنى الإيذاء، بل كنوعٍ من الردّ التربوي الذي يترك أثرًا دون أن يُهلك.

وكأن الرسالة هنا تقول: إن الكبير لا يمكن أن يجاري الصغار في أفعالهم، لأنه سيُعاتب عند العقلاء، لكن لا بأس أن يُجاريهم بصبيٍّ في مثل أعمارهم، فيكون التصرف عنيفًا لكن محسوبًا بدقة، أشبه بما يُسمّى في عُرف الأطباء اليوم: ”حبة عند اللزوم“ — جرعة دوائية قوية، لكنها مقنّنة الاستخدام.

وهنا تبرز الحكمة الحقيقية: الحكيم ليس من يكتبها فحسب، بل من يعرف متى يكتبها؟، ومتى سيستخدمها؟

وأخلص إلى أن الأمثال الشعبية، وإن بدت ساخرة أو عفوية، قد تتقاطع مع التجربة التاريخية لتؤكد أن شيئًا من الجنون المحسوب قد يكون، في بعض الأحيان، ضرورةً اجتماعية لا نشازًا أخلاقيًا.

لذلك، فهي بحقّ: حبة عند اللزوم.

[1]  عوفها باللهجة العراقية تعني اتركها

[2]  الإتحاف بحب الأشراف ص 75

[3]  بحار الأنوار ج 20 ص 52
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
حسين الصفار
10 / 8 / 2025م - 4:53 م
المثل العراقي والمصري والشامي اللي ذكرتهم يبينون أن الشعوب تعرف أحيانا قيمة «المجنون المحسوب» أكثر من التنظير الأكاديمي