آخر تحديث: 21 / 9 / 2025م - 1:17 ص

قلوب تمشي قبلنا

عماد آل عبيدان

لم أمشِ وحدي في طريق المشّاية من النجف إلى كربلاء؛ كنتُ أمضي على ظهر قلوبٍ سبقتني، تُمهّد لي الدرب قبل أن تطأه قدماي. قلوبٌ تعرف الطريق أكثر مما تعرف نفسها، وتعيش لأجل هذه اللحظة، كأن حياتها قبلها كانت تمهيدًا واحدًا لهذا الامتحان العظيم.

كل عام، تعود الخدمة الحسينية بأربعين الإمام الحسين كمدرسة حيّة لا تشبه أي منظومة بشرية أخرى. تتوزّع المواكب على امتداد المسافة، أعمدة الطريق تحدّد الإيقاع، ووجوه الخدّام تصنع المعنى. لافتاتٌ صغيرة فوق خيامٍ كبيرة، وراءها مصانع حبٍّ تعمل بلا توقّف:

مطابخ تفور بالقيمة النجفية والتشريبة والفلافل والكباب العراقي، وما لذّ وطاب من ألوان الكرم، محطات ماء بارد تروي العطاشى وتوزّع على امتداد الطريق، قاعات نوم جماعية، نقاط شحن للهواتف، مغاسل، حلاقون متطوّعون، وعيادات ميدانية تعالج أي عارض قبل أن يتحوّل إلى عائق.

في الطريق، ترى شابًا يركض وهو يوزّع التمر على مُسنّة تعبت، وآخر يرشّ الماء في قيظ النهار فيتحوّل وجهه إلى قناعٍ من العرق والابتسامة، وثالثًا ينحني بين الأرجل ليعيد لطفلٍ فردة حذاء سقطت منه وسط الزحام، وكأنه يعيد له قلبه. لا أحد يطلب منهم، ولا أحد ينتظر منهم، ومع ذلك يعملون وكأن بقاء المسير متوقفٌ على أكتافهم.

وترى مشاهد… ومشاهد، لا يمكنك أن تصفها كلها، ولا بهذه العجالة أن تمنحها جزءًا من حقها. مشاهد تظلّ عالقة في العين قبل القلب: أطفالٌ صغار، تتصبّب وجوههم بالعرق، يمدّون أيديهم بكأس ماء أكبر من كفّهم، أو يركضون حاملين أطباق العصير، أو قطع الأرز بالدجاج، أو قدور الحساء يوزّعونها مع آبائهم، أو يقفون في صفٍّ طويل يقدّمون المناديل والابتسامات. من الذي فعل بهم هذا؟ من الذي علّمهم أن الخدمة شرف، وأن التعب لأجل زائر الحسين فرحٌ لا يُشبه أي فرح؟

إنه الحسين… الحسين الذي جعل من أصغر قلبٍ فيهم خادمًا أكبر من سنواته، ومن أبسط حركةٍ لديهم درسًا عميقًا في العطاء.

هذه القلوب، كبارًا وصغارًا، لا تُرى على الشاشات إلا عابرًا، لكنها على الأرض تصنع الفرق: تنزع الحصى من منتصف المسار، تمهّد الحفر بألواح الخشب، تسند العاجز، وترافق الضائع حتى يجد رفاقه. بعضهم لا يُكمل المشي إلى ضريح أبي عبدالله، بل يعود من منتصف الطريق ليبدأ مع فوجٍ جديد أو مضيف آخر، يخدم فيه بقلبٍ وفرحةٍ وشعور لا يوصف، وكأن سعادتهم أن يصل غيرهم قبلهم، فتصلهم البركة والثواب والدعاء.

هي خدمةٌ لا يحدّها زمن الأربعين، لكنها تتكثّف فيه حتى تصبح لوحة متحركة من المروءة والإيمان. من يظن أن الأمر مجرّد طعام وشراب، لم يرَ تفاصيل الضيافة: ماءٌ مُراقَب، تعليمات بالنظافة، قفازات في المطابخ، مغاسل مطهّرة، فرق إسعاف متنقّلة، ولافتات تذكّر بغسل اليدين وشرب الماء النظيف. إنها تفاصيل صغيرة تحفظ صحة ملايين الزائرين، وتضمن أن يكتمل المسير بلا عثرةٍ تعكّر وجه الزيارة.

وأنت تمشي، تدرك أن هذا النظام الهائل لا تديره شركات ولا وزارات وحدها، بل قلوب؛ بيوت فتحت أبوابها، جامعات أرسلت طلابها، جمعيات نصبت خيامها، وأحياء بأكملها أعادت اختراع نفسها لتحتضن الموج البشري بعين الحسين وقلبٍ يتجه لسفينته بخدمة زائريه.

وحين تصل، وتهمس بسلامك عند الضريح الشريف، ستدرك أن بينك وبين الحسين، كانت هناك قلوب تمشي قبلك… تحفر لك خطاك في الطين بين ذرات غبار المشاية، وتغسلها بالنية قبل الماء، ثم تختفي في الظلّ، تاركةً لك المجد وحدك.

هؤلاء هم أبطال الطريق، صغارًا وكبارًا، لا يسألون عن أسمائهم، ولا ينتظرون صورة… لأن قلوبهم سبقتهم، ومكانها الحقيقي ليس في الكاميرا، بل في ذاكرة الطريق نفسه.

ولعل أجمل ما في الأمر… أنك حين تعود من الأربعين، ستكتشف أن هذه القلوب ما زالت تمشي أمامك، حتى في حياتك اليومية، تذكّرك أن من ذاق لذة الخدمة في درب الحسين، لن يعرف طريقًا آخر إلا على أثرها.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 5
1
إبراهيم الصفواني
10 / 8 / 2025م - 12:43 م
أستاذ عماد مقالك مليء بالصور الحية التي تجعل القارئ يشعر أنه يمشي بين المواكب ويتنفس هواء المشاية. رزقنا الله وإياكم زيارة الحسين
2
منى المبارك
10 / 8 / 2025م - 2:28 م
جميل أنك أستاذ عماد لم تختصر الخدمة في الطعام والشراب بل ذكرت التفاصيل الصغيرة مثل غسل اليدين وتعقيم المطابخ وهذا يبين وعي الخدام بمسؤولية صحية تجاه الزوار.
3
فاطمة المحروس
10 / 8 / 2025م - 5:13 م
تشبيهك بأن القلوب «تحفر خطاك في الطين وتغسلها بالنية قبل الماء» كان من أجمل صور النص. يلخص المعنى الروحي للمسير والخدمة في جملة. سلمت يمينك
4
زهراء المعاتيق
10 / 8 / 2025م - 8:02 م
مقال عميق يمشي بالقارئ خطوة خطوة حتى يصل بك الى الضريح..
5
عماد آل عبيدان
13 / 8 / 2025م - 10:39 ص
أشكر كل من مرّ بكلماته النقية وتعليقه الصادق على مقالتي “قلوب تمشي قبلنا”، فقد زادها إشراقًا ودفئًا.

سرّني أن النص حملكم خطوة خطوة حتى الضريح كما قالت الأخت زهراء، وأن تشبيه القلوب وهي «تحفر خطاك في الطين وتغسلها بالنية قبل الماء» بلغ فيكم المعنى كما أشارت الأخت فاطمة، وأن التفاصيل الصغيرة من صحة ونظافة ووعي الخدّام لامست تقدير الأخت منى، وأن الصور الحية جعلتكم يا أخي إبراهيم كأنكم تمشون بين المواكب وتتذوقون هواء المشاية.

هذا التفاعل الجميل يؤكد أن ما نعيشه في طريق الحسين عليه السلام لا يُختزل في مشهد ولا جملة، فهو حياة كاملة، فيها العاطفة والوعي، وفيها خدمة الروح والجسد معًا.
أسأل الله أن يرزقنا جميعًا زيارة الحسين وخدمة زوّاره، وأن يجعل قلوبنا تمشي قبلنا دومًا في درب الولاء. ?