العطاء الذي انطفأ.. بعدما أصبح التطوع رفاهية لا ثقافة
كان العطاء يومًا من أبسط ما يمكن للإنسان أن يقدمه، بل كان جزءًا من هويته لا فعلًا طارئًا يمارس عند توفر الوقت. كان مجتمعنا قديمًا بفطرته مبنيًا على التكافل، الكبير يتقدم الصغير، الصغير يساند، والغني يمنح قبل أن يُطلب. لم تكن الحاجة تُقال بل تُفهم من نظرة عين، ولم تكن المساعدات تُوثق بل تُغلف بالستر والنية الطيبة.
أما اليوم فقد تغير المشهد، صار العطاء فعلًا مناسباتيًا، أو مشروطًا أو حتى ترفًا يمارسه من يملك فراغًا ليقوم بدور الخير، وكأن الخير مهنة موسمية لا تنتمي للجميع.
لنتأمل سويًا واقع التطوع، سنجده عند البعض مرهونًا بالصور والظهور، وعند آخرين مؤجلًا إلى حين أفرغ. وكأن الخير يُقاس بظروف الوقت لا بصدق النية. والبعض يقول: ”مشغول جدًا عن التطوع“. لكنه يجد الوقت لساعات من التصفح بلا أثر، وآخر يردد: ”ليتني أستطيع أن أساهم لكن لا أعرف كيف“. بينما أبواب العطاء أقرب مما نعتقد، كزيارة مريض، ومواساة يتيم، ترتيب طاولة إفطار، مساعدة جمعية، مسح دمعة، أو حتى كلمة طيبة.
ما الذي تغيّر؟ هل أصبح الناس أكثر انشغالًا فعلًا؟ أم أن الإحساس بالآخرين قلّ؟ في الماضي القريب، كانت المجالس تُبنى بالأيدي، والمدارس يُعاد ترميمها وصبغها بمبادرات أهلية لا بعقود رسمية، والمآتم تُدار بهمم لا تُسأل عن مقابل. اليوم تدعو أحدهم لحمل كرتون ماء، فيسألك: من المنظم؟ هل هناك توثيق؟ عندك خطاب رسمي؟ صار فعل الخير يحتاج لتصريح، وكأننا فقدنا العفوية التي كانت تحركنا دون ضوء كاميرا أو تغريدة شكر.
الأشد وجعًا أن الجمعيات الخيرية، واللجان المجتمعية تعاني نقصًا في المتطوعين، لا لغياب الناس، بل لغياب الروح. صار البعض يتعامل مع التطوع كمشروع لتسويق الذات، لا كرسالة، وهناك من يتصدر لا ليخدم بل ليُلتقط، وهناك من لا يشارك لأنه يرى أن العطاء يجب أن يكون كبيرًا حتى يستحق المشاركة والعناء، غافلًا أن أصغر الأفعال قد تفتح أبوابًا من الأثر لا يعلمها إلا الله.
في سيهات كما هو الحال في كثير من مناطقنا الحبيبة الطيبة، كان التطوع نسيج حياة لا يحتاج دعوة. الشباب كانوا يفرشون الساحات، والكبار يوزعون الطعام، والنساء يُجهّزن المجالس والمطابخ بقلوب تنبض حبًا وخدمة. لم يكن الأمر وظيفة، بل قناعة بأن من لا يخدم الناس لم يفهم بعد قيمة وجوده بينهم. كانت سيهات والكثير من مناطقنا مليئة بأسماء لا تُنسى لأنهم تركوا أثرهم في القلوب، لا على اللافتات.
واليوم مع تغير الحياة وتسارعها وتقنياتها التي قربت المسافات وقطعت العلاقات، تراجع العطاء من فطرة إلى خيار، ومن أولوية إلى خيارٍ شخصي، يفعله البعض ويتركه البعض الآخر وفقًا لظروفه أو مزاجه. لكن ما لا يُقال هو أننا كمجتمع، نخسر أكثر مما نتصور حين يبتعد الناس عن العطاء فإنهم يبتعدون عن بعضهم البعض، يُصبح المجتمع أكثر فردية، أكثر صمتًا وأكثر برودة، وتكبر المسافات والفجوات بيننا بما لا تردمه أي مبادرة موسمية.
لكن العطاء ليس فقط فعلًا اجتماعيًا، بل هو علاج نفسي وروحي. حين تُعطي تكتشف أنك لست وحدك، وأنك قادر على أن تكون نورًا في حياة غيرك، ولو للحظة تشعر بأن لك مكانًا في هذا العالم. لا لأنك تملك بل لأنك تشارك. والأجمل أن العطاء لا يُشترى ولا يُدرّب عليه كثيرًا، بل يبدأ من يقظةٍ للقلب وضمير حي. فهل نملك الشجاعة أن نخرجه من قفص المناسبات إلى هوية يومية نعيشها؟ أن نعلم أبناءنا أن الخدمة الاجتماعية ليست تكرمًا، بل أصلٌ فيهم يجب أن يُصان.
العطاء لا يموت، لكنه ينام أحيانًا. وكل من يحتاجه سيعود إليه، أن يرى منا حركة بسيطة، نية صادقة، مبادرة تبدأ من بيتنا، من شارعنا، من مسجدنا. من حسينيةٍ تقف على أربعة متطوعين، ويكملها مئة غائب. ولنتذكر أن من خدم الناس خدم نفسه أولًا، وأن من أنار درب غيره لن يعيش في ظلام.