آخر تحديث: 13 / 8 / 2025م - 11:33 م

وهم الامتلاك: حين نصبح أسرى لما نشتري

نازك الخنيزي

لسنا ضحايا الأسعار وحدها، بل ضحايا الوهم الذي يجعلنا نشتري القبول ونقترض الانتماء. في زمن صار فيه المظهر جواز سفر، أصبحنا ندفع أثمانًا باهظة لرحلات لا توصلنا إلى أي مكان.

لم نعد نشتري الأشياء كما كنا نفعل يومًا، بدافع الحاجة أو لحظة بهجة صافية، بل أصبحنا نشتري لنُثبت أننا موجودون… لنعلن للآخرين أننا في الصف، حتى لو كلفنا ذلك أن نبيع راحتنا قطعة قطعة. صار الشراء اعترافًا بالانتماء، لا قرارًا شخصيًا، وصارت الممتلكات شهادات عبور إلى مجتمع يقدّر الصورة أكثر من الجوهر.

في زمنٍ صار فيه امتلاك الأشياء أقلَّ ارتباطًا بحاجاتنا وأكثر خضوعًا لالتزامات المجتمع غير المكتوبة، أصبحنا نركض وراء قوالب جاهزة من ”النجاح“ و”الأناقة“ و”الاحتفال“، كما لو كانت مفاتيح القبول في هذا العالم. الكماليات البسيطة تحوّلت إلى ضروريات مُدَّعاة، والموضة السريعة صارت دينًا يُستوفى من صحتنا وكرامتنا المالية قبل محافظنا.

تأمل عالم الموضة الاستهلاكية: قميص موسمي يتبدل لونه مع إعلان تلفزيوني، حقيبة يد تُرمى قبل أن يبهت شعارها، حذاء براق يُشترى لا للمشي، بل ليلمع في صورة، ثم يُلقى في زاوية الخزانة حين يهبط ”التريند“ إلى النسيان. الملابس لم تعد لحماية الجسد أو جماله، بل لحماية الصورة الاجتماعية من تهمة ”التأخر عن الركب“.

ثم تأتي حفلات البذخ، تبدأ منذ استقبال المولود: قاعة مزينة وكأنها زفاف مصغّر، هدايا تُشترى بالكاميرات أكثر من القلوب، ضيافة تفوق قدرة الميزانية لمجرد أن ”الناس سيتحدثون“. يكبر الطفل وتكبر معه فواتير الاحتفال؛ أعياد الميلاد تتحول إلى مهرجانات، والنجوم الكرتونية تتجسد في عروض حيّة، والمصورون ينتشرون كأنهم في حفل ملكي. وحين يحين الزواج، تصل الدورة إلى ذروتها: قاعة بأضواء لا تنام، فستان يساوي ثمن سيارة، موكب يشبه عروض المهرجانات، وضيوف يقيمون الحفل على هواتفهم قبل أن يهنئوا العروسين.

وبينما ننفق كل ذلك على المظاهر، تغيّرت تفاصيل حياتنا اليومية بصمت: تحولت الدعوات من البيوت إلى المطاعم، وأُغلقت المنازل التي بنيناها أكبر مما نحتاج، حتى المطابخ أُهملت وأُغلقت، وضاق المكان عن تحضير فنجان قهوة واحد. أصبح البيت مكانًا للعرض أكثر منه للعيش، تحفة صامتة تلمع للضيوف، لكنها لا تحتضن دفء الاجتماع العائلي كما كان.

وربما ما يدفعنا إلى هذه الدائرة ليس حب الامتلاك فحسب، بل خوف الفقدان؛ خوف أن نظهر أقل مما يتوقعه الآخرون، أو أن نشعر أننا خارج الصورة التي فرضها المجتمع. نحن لا نشتري الأشياء لذاتها، بل لنشتري شعورًا بالقبول، ولو كان مؤقتًا. وفي غياب المعنى الأعمق، تتحول المقتنيات إلى بديل عن الحميمية، والحفلات إلى بديل عن الفرح، والموضة إلى بديل عن الهوية.

فالتحرر لا يعني أن نملك كل شيء، بل أن نتحرر من الحاجة إلى كل شيء.

كأننا، في سباقنا المحموم، بنينا قفصًا من ذهب، علّقنا فيه أضواء الموضة، وملأنا جدرانه بصور الحفلات، وأغلقنا أبوابه من الداخل بالمفاتيح التي دفعنا ثمنها من أعمارنا. وحين جلسنا في منتصفه، اكتشفنا أن كل ما نملكه يلمع… إلا نحن.

أكتب هذا لأذكر نفسي أولًا، أن أثمن ما لا يُشترى، وأحرس ما لا يُباع، وأترك للروح فسحة لا يزاحمها بريقٌ زائف.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
أحمد الغانم
8 / 8 / 2025م - 10:08 ص
المقال يذكرني ببيت الشعر: «ولم أر في عيوب الناس عيبا… كنقص القادرين على التمام» نملك الأشياء لكن نفتقد المعنى
2
د حسين
8 / 8 / 2025م - 1:18 م
تحليلك لحفلات البذخ من المهد للزواج دقيق… نحن نصنع سباقا لا خط نهاية له.