فوضى الداخل… وانعكاسات المرآة الكونية
ليس العالم مرآة فحسب، بل سؤالٌ معلق في الهواء: ما الذي تراه حقًا حين تُبصر؟
نحن لا ننظر إلى الخارج… بل نُعيد قراءته بأحبار داخلنا. كل صراع في هذا الكوكب، كل اختلال في الموازين، كل ارتباك في ميزان العدل، هو صدىً بعيدٌ لفوضى أولى سكنت قلوبنا ولم نُصغِ لها بما يكفي. فالمرآة لا تخلق الملامح، بل تكشفها. وإن كانت الصورة شعثاء، فذلك لأن الداخل لم يهدأ بعد.
حين نغضب من مرآةٍ صادقة، نكسرها. حين نرفض أن نرى، نلعن الضوء.
لكن الزجاج لا يُخطئ، والصورة لا تختار مصيرها. وحدها الروح التي لم تُهذَّب، هي من تحمل الغبار ثم تُسقطه على هيئة شتائمٍ للعالم.
قيل إن الحكماء قديمًا كانوا يبنون بيوتهم من زجاج، لا استعراضًا للشفافية، بل تمرينًا على الصدق. أما نحن، فبنينا بيوتنا من زجاجٍ معتم، نُطِلّ على العالم بعيون مكسورة، ونحكم على الفوضى بينما نخبّئ أشباحنا في الأركان. نغضب من سماءٍ غائمة، دون أن نلاحظ أن النوافذ التي ننظر منها ملوثة بأنفاسنا، لا بعواصف الخارج.
نحن لا نعيش في العالم… بل في عدسته.
ننظف بيوتنا كل صباح، ونخرج لنشتكي من قذارة الطريق. نهتم بالأرض تحت أقدامنا، وننسى أن العين الملوثة تُنبت الطين في كل شيءٍ تراه.
تُروى عن حكيمٍ قصة صغيرة بحكمة كبيرة:
رجلٌ كان يكنس عتبة منزله، ثم يخرج ليلعن شوارع القرية، فأجابه الحكيم: ”لماذا لا تنظف الطريق أيضًا؟“ قال: ”ليس ملكي!“
فأجابه: ”لكن عينيك ملكك، وقد أغلقهما الغرور.“
هكذا تمامًا، نُنظّف بلا وعي مكانًا يسكننا، بينما نترك قلوبنا مفتوحة لغبارٍ لا يُرى، لكنه يفسد الرؤية كلها.
التهذيب الحقيقي لا يبدأ من الخارج، بل من انحناءة العين على الداخل.
ليس المطلوب أن نُغيّر العالم… بل أن نُبدّل موقع الوقوف فيه. فكما لا جدوى من نظّارة ذهبية مغطاة بالبخار، لا معنى لروحٍ نظيفةٍ في ظاهرها، خاوية في أعماقها. كلّ تهذيبٍ لا يبدأ من الدائرة الأقرب—القلب، العلاقة، الفكرة—سينتهي إلى وهم أخلاقي جميل… لا يغيّر شيئًا.
وفي التصوّف، قيل: إذا استوى القلب على ساق اليقين، استوى الوجود كله تحت قدمي صاحبه.
الكون لم يتبدّل… بل تبدّلت العين التي أبصرته. سليمان، حين دخل القدس، لم يُعد ترتيب المدينة، بل رأى ترتيبها الخفي. نظر بعينٍ لم تُعكرها الأهواء، فاستجابت له الكائنات كما تستجيب الأشياء لمرآةٍ نقية. كان سرّه في رؤيته، لا في سلطانه.
الكون لا ينتظر مَن يُعيد كتابته، بل من يقرأه على حقيقته.
كان البوذيون يصنعون مرايا من ماءٍ ساكن، ليعكسوا بها وجه الليل. لم تكن مرايا لزينة، بل طقوسًا للصفاء: أن تتأمّل صورة القمر دون أن تهزّ الصفحة. نحن كذلك بحاجة أن نُصبح مرايا لا تعكس الخارج فحسب، بل تُنقيه في انعكاسها: أن نكون صافيَن بما يكفي لنفهم دون أن نحكم، هادئين بما يكفي لنُبصر دون أن نرتجف، ومستويين في أرواحنا كما تستوي الأرض تحت أول المطر.
ذلك هو التهذيب الأعمق: أن تُهيّئ الداخل كي لا يفسد الخارج، أن تُسوّي ملامحك الروحية كي لا يختلط صوتك بالضجيج.
وفي النهاية…
لسنا جُزيئات عابرة في كونٍ صاخب، بل نحن مراياه الصغيرة. وكل قطرةٍ نُنقيها منّا، تضيء في المدى مرآةً أخرى لم نكن ندري أنها تنظر إلينا.
”أنتَ لست قطرةً في المحيط، بل المحيط كله في قطرة“ …
والفوضى التي تراها، ربما كانت حبرًا منك، نسيته على المرايا.