الشيخ منصور البيات: أيقونة الاجتهاد والزهد في القطيف
في ربوع القطيف العريقة، تتراكم قصص العلماء الذين جسّدوا أسمى معاني العلم والورع. ومن بين هذه القامات البارزة، يبرز اسم الشيخ منصور البيات رحمه الله، العالم المجتهد الذي جمع بين عمق الفقه وسمو الزهد، ليكون منارة يهتدي بها طلبة العلم وأهل الدين، وركيزة من ركائز الوعي الديني والاجتماعي في مجتمعه.
وُلد الشيخ منصور البيات رحمه الله في مدينة القطيف، في أسرة علمية عُرفت بحبها للعلم والدين، وكانت بمثابة البيئة الخصبة التي نبت فيها حب المعرفة والارتباط بالعلوم الدينية. نشأ منذ صغره على حضور مجالس العلماء، مما كوّن في شخصيته نزعة مبكرة نحو العلم والانضباط، وشكّل انطلاقته نحو طريق طلب العلم الشرعي الجاد.
توجّه الشيخ البيات رحمه الله إلى النجف الأشرف، حيث التحق بالحوزات العلمية، ودرس الفقه، والأصول، والمنطق، والعقائد على أيدي كبار العلماء والمراجع. تميز في دراسته بالجد والاجتهاد، حتى بلغ مرتبة الاجتهاد بعد سنوات من التبحّر في البحث والتحليل.
وقد كان يتعامل مع النصوص الفقهية بدقة وعمق، ويُولي عناية كبيرة بربطها بواقع الناس، ما جعله واحدًا من أبرز الوجوه العلمية الموثوقة داخل القطيف وخارجها.
من أبرز ما ميّز الشيخ منصور البيات رحمه الله زهده وتقواه، حيث اختار البساطة في العيش، وابتعد عن مظاهر الرفاهية والترف، ليجسد بأفعاله تعاليم الزهد التي تُروى عن سيرة النبي محمد ﷺ وأهل بيته .
لم يكن الزهد عنده خطابًا منبريًا فحسب، بل كان منهجًا عمليًا يُطبّقه في مأكله وملبسه ومسكنه وتعاملاته. انعكس ذلك في هيبته، وفي ثقة الناس بحكمته، واطمئنانهم لعدالته وورعه.
ترك الشيخ البيات رحمه الله إرثًا علميًا ثمينًا تمثل في مؤلفات ودروس ومحاضرات، منها:
• رسائل فقهية في مسائل معاصرة
• الزهد في حياة النبي وأهل بيته
• مجموعة من الدروس الفقهية والأصولية التي لا تزال تُدرّس ويُرجع إليها طلبة العلم في القطيف وغيرها.
تميّزت مؤلفاته بالوضوح والدقة، وكانت تخاطب القارئ المعاصر بروح الأصالة، وتسعى لتقريب المعنى الفقهي بلغة يسيرة دون الإخلال بالعمق العلمي.
حظي الشيخ منصور البيات رحمه الله بمكانة خاصة في مجتمع القطيف، لم تقتصر على بعده العلمي، بل امتدت لتشمل دوره الاجتماعي والإصلاحي. عُرف بالحكمة والاعتدال، وبكونه صوتًا جامعًا في زمن التباين والاختلاف.
في بيئة زاخرة بالعلماء، تميّز بحضوره الهادئ والمؤثّر، وكان يُنظر إليه كمرجع يُرجع إليه في المسائل الدقيقة والمواقف الحرجة. لم يتعصب لرأي، ولم يُقصِ أحدًا، بل كان حريصًا على جمع الكلمة وتوحيد الصف.
برز الشيخ رحمه الله كصاحب رؤية إصلاحية عميقة، تُعلي من قيمة التربية الدينية المتوازنة، وتقدّم الدين في صورة رحيمة وعقلانية. لم يكن يكتفي بالحديث من على المنبر، بل كان يمارس دوره كمصلح في المجتمع، يسعى للإصلاح بين المتخاصمين، ويوجه الأسر والشباب نحو الفضيلة والاعتدال.
كثير من القضايا الاجتماعية تم احتواؤها بحكمته، حيث كان مرجعًا يُقصَد في النزاعات الأسرية والمجتمعية، ويُعتمد عليه في رأب الصدع بين الأفراد والعوائل.
أقام الشيخ البيات رحمه الله علاقات راسخة مع مؤسسات المجتمع في القطيف، من لجان دينية وجمعيات خيرية ومجالس أهلية. لم يكن بعيدًا عن الناس، بل حاضرًا دائمًا بينهم، مشاركًا في مناسباتهم، ومهتمًا بشؤونهم، وناصحًا لهم.
ساهم بدور فعّال في دعم المبادرات التعليمية والخيرية، وكان يرى أن خدمة المجتمع هي امتداد طبيعي لدور العالم الصادق.
اهتم الشيخ البيات رحمه الله بالشباب اهتمامًا كبيرًا، وحرص على توجيههم فكريًا وسلوكيًا. دعاهم إلى الجمع بين التحصيل الأكاديمي والتديّن الواعي، وكان يرى فيهم امتدادًا للمسيرة العلمية والاجتماعية.
وقد تخرّج من تحت يديه عدد من طلبة العلم، والمهتمين بالشأن الديني، ممن يحملون أثره في تفكيرهم وسلوكهم ومنهجهم الدعوي.
يمثل الشيخ منصور البيات رحمه الله نموذجًا فريدًا للعالم العامل، الذي جمع بين الاجتهاد العلمي والزهد الحقيقي، وبين الحكمة والرحمة، وبين المعرفة والتواضع. وقد ترك أثرًا لا يُمحى في مجتمعه، لا من خلال مؤلفاته فحسب، بل بسيرته ومسلكه وقيمه التي عاش بها ومات عليها.
رحم الله الشيخ منصور البيات، وجزاه عن دينه وأهله ومجتمعه خير الجزاء، فقد كان مناراتٍ مضيئة في زمن المتغيرات، وصوتًا صادقًا لا يُنسى. وستظل ذكراه حاضرة في القلوب، وعلمه باقٍ في العقول، وسيرته ماثلة أمام من يسلك طريق العلم والخدمة والبذل.