آخر تحديث: 2 / 8 / 2025م - 7:09 م

الصديقات

هناء العوامي

كوكب الأرض، سنة 2750 بعد الميلاد.

استيقظت لورا صارخة من نومها صباحا.. وما أن رأت نور الشمس يتخلل ستائر غرفة نومها السوداء ويسطع من حولها حتى صرخت مرة أخرى. شقت صرختها سكون الصباح كما شقت أشعة الشمس المتسللة ظلام حجرتها.

بدا لها وكأن الكوكب يحترق، والحريق كان هو الكابوس الذي صحت منه.. كانت إحدى العائدين من تيتان إلى الأرض، ومثل معظم من عادوا كانت تخاف من الشمس.

مر قرن من الزمان - بالتوقيت الأرضي - منذ غادر الزطاريخ المجموعة الشمسية نهائيا جرّاء حرب عالمية اندلعت بكوكبهم، واندثار التقنية التي مكنتهم من السفر عبر المجرة.

مر نصف قرن منذ عودة نصف سكان تيتان من البشر إلى الأرض، لا يتحمل تيتان زيادة كبيرة في عدد السكان بسبب حاجتهم المستمرة إلى ماء وأكسجين مصنّع، من كانوا يعيشون على تيتان كانوا يستخدمون التقويم الأرضي إلى جانب تقويم زحل، الآن... لم يعد أحد يستعمل تقويم زحل، بيدَ أن ”سَنة زحل“ باتت مصطلحا شائعا لوصف الخطط الاستراتيجية.

كما أن الكتب والمقالات التي كتبت في تيتان، أصبحت تربك الأرضيين الذين لم يغادر أسلافهم الأرض بسبب استخدامها لتقويم زحل.

عانى العائدون من فوبيا الأماكن المفتوحة، ومن خوف سكان الأرض منهم على اعتبار أنهم كائنات فضائية، ومن عدم تحملهم للشمس، لاحظ الجميع أنهم يتجنبون الخروج من بيوتهم نهارا، ويفضلون الوظائف التي تتطلب السهر ليلا.. أصبح الواحد منهم يوصف بأنه من أبناء الليل..

كما كثرت إصابتهم بالأمراض المناعية مقارنة بالسلالات التي لم تغادر الأرض، لكنها قلت مع استخدام لقاحات خاصة استحدثت لهذا الغرض.

ضم بعض الهندوس زحل إلى قائمة آلهتهم الكثيرة، وادعى بعض اليهود ملكيتهم لكوكب الأرض بما أن أجدادهم عاشوا فيه، أما أصحاب الشعر الأشقر الذين كانوا الأقل تحملا لطبيعة الأرض الجديدة بعد الجفاف، فكان بعض الناس يحسبونهم من الزطاريخ بما أنهم كانوا الأقل تكيفا مع بيئة الأرض الجديدة، وقد سئموا من محاولة تبرير أنفسهم والتأكيد على أنهم عرق بشري، والاجتهاد في إثبات أن الزطاريخ لم يعد لهم وجود، بل أن بعضهم ادعى أن الزطاريخ محض خرافة لم توجد قط في تاريخ الجنس البشري.. أقول.. تعِب هؤلاء من هذا كله، ما حدا بأغلبهم إلى الهجرة إلى المريخ بعد عشرين سنة أرضية وحسب...

سُمح لهؤلاء العائدين من تيتان بالقليل جدا من الأمتعة، لكن بعضها بعد الوصول كان يباع بأسعار خيالية في متاحف خاصة أو للأثرياء من الهواة، أتكلم عن الأجهزة التي تم تطويرها في بيئة تيتان، حيث اعتبرت أشياء غريبة ونادرة في بيئة الأرض، مع أنه لم يعد لها أي استخدام أو نفع، ما حدا بالبعض إلى العودة للأرض فقط في سبيل الثراء، مع أن الرحلة تستهلك جزءا لا بأس به من حياته، والكثير منهم - ويا للسخرية - لم يعش طويلا لينعم بما باعه، أو سُرق منه فور وصوله. من ثم تم منع اصطحاب أي أمتعة من هذا القبيل.

الآن تجلس لورا مرغمة نفسها على مراقبة الغروب، ألوان السماء أقرب إلى ألوان الحرائق، ويبدو لها المشهد مرعبا وجميلا، تعرف أن عليها مواجهة مخاوفها وجها لوجه، ربما ستقل الكوابيس مع الوقت.

ما أن أظلمت السماء حتى أخذت شهيقا وقفزت مثل طفلة وهي تشعر بسعادة بالغة لرؤية السماء المفتوحة، والمشي بحرية تحت النجوم التي لا تحجبها قباب أو أنفاق، اجتمعت بصديقاتها سارة وسوزان وفاطمة وراحيل وروزا وتسنيم... كلهن شابات لم يبلغن سنة بتقويم زحل. وكلهن ما عدا سارة كن من العائدين من الفضاء، اجتمعن للسمر عند شاطئ البحر القريب.. الليل كان يشعرهن بالسعادة... حتى سارة التي لم تكن الشمس تخيفها..

بقين يثرثرن وهن يرمين الحصى في البحر بحبور. بحر شديد الملوحة هو.. وقليلة هي الكائنات التي تحيا في جسمه، مقارنة بما كان منذ قرون مضت.. لكنه يظل بحرا..

سارة: ”ألحين صرت أنا البطة السودة فيكم يا الفضائيين المولودين في زحل؟“

تسنيم: ”تيتان مو زحل“.

سوزان: ”أنا وراحيل وفاطمة مولودات في المريخ“.

روزا تخلع حلية تمثل كوكب زحل من حول عنقها وترميها في البحر قائلة: " من حظك أنك مواليد الأرض،

أكره زحل"..

سارة ضاحكة: ”فيه ناس من كرهها للشمس تحسي ودها تروح تعيش في نبتون“.

لورا: ”أنا ما أكره الشمس بس عندي حساسية منها، ومن فيكم اللي يحبها في عز الظهر؟ مزعجة مرة“.

سارة: ”مو بس الظهر... هههههه“.

لورا وهي تمسح فرشاة طلاء الأظافر على أظافرها برفق: ”ولو... كلكم تحبوا الليل أكثر... جوه أروق“..

صدرت همهمات موافقة من أترابها بينما هن يتسابقن في رمي الحصى أبعد مسافة ممكنة في البحر.

رمت لورا - بيدها اليمنى الحرة التي لم يتم طلاء أظافرها بعد - حجرا صغيرا بقوة جعلت الماء يتناثر حوله كنافورة صغيرة...

فاطمة - تضحك -: ”لا تقتلي قناديل البحر المساكين عشانك معصبة ع الشمس! ههههه شوي شوي“.

روزا بعد أن رمت حصاة صغيرة: ”أنا رميت أبعد شي، خلاص أظن أنا فزت“.

فاطمة تلتفت إلى لورا وتسألها برفق: ”بأمانة، هل تفضلين العودة إلى زحل؟“.

لورا: ”لا“.

ثم سكتن جميعا وعم الهدوء لبرهة.

كانت لورا هي الوحيدة التي هاجرت وحدها إلى الأرض بعد طلاق أبويها ووفاة أمها.

جميعهن هاجرن مع عائلاتهن ومعظم أقاربهن، وبالنسبة لفاطمة حتى الجيران، لم يبق أحد ممن تعرفه جيدا في المريخ.

كان ضيق لورا من السؤال واضحا فقد كانت تحرك يديها كالمروحة كي تسرع تجفيف طلاء الأظافر. فعلت ذلك بعصبية واضحة.

”يبدو أنها تحاول الطيران إلى هناك“ قالت فاطمة، ضحكن، وابتسمت لورا.

ثم أعلنت روزا بطريقة مسرحية مضحكة: ”والآن حان وقت العشاء.. تفضلن يا سيدات ودعكن من ألعاب الأطفال هذه“.

راحيل: ”ألعاب أطفال؟ ههههههه ألم تعلني قبل لحظة أنك فزت؟“.

فاطمة: ”المريخ قريب“.

سارة:: ”؟؟؟؟“.

فاطمة: ”ماذا؟“.

سارة: ”قلتي أن المريخ قريب“.

فاطمة: ”إيه قلت، لا.. روزا.. أنا ما أبغى صلصة حارة“.

سارة: ”المريخ قريب، ثم ماذا؟ ما الذي تحاولين قوله؟“

روزا: ”هي ما تحب الصلصة الحارة بما أن المريخ قريب، واضحة!“..

ضحكن، خاصة لورا التي دمعت عيناها من الضحك.

”الله يسعدك يا شيخة“ علقت فاطمة.

شغلت راحيل من هاتفها الذكي بث مباراة كرة قدم بين فريق الأرض وفريق المريخ، كان البث حيا يمثل صورا هولوقرامية للاعبين حتى إن لورا ذعرت حين انطلقت الكرة باتجاهها، لأن تقنية الهولوقرام لم تكن تستخدم بكثرة في تيتان.

بعد عودتهن لبيوتهن اتصلت روزا بفاطمة للحديث عما دار في اجتماع الصديقات، ضغطت فاطمة على زر الإجابة الأخضر، فظهرت روزا أمامها، مدت فاطمة يدها للمصافحة، ابتسمت روزا بسخرية قائلة: ”أنا هولوقرام“.

فاطمة بسخرية مماثلة: ”ما يمنع“ ورفعت كفها عاليا، ضربت روزا كفها بكف فاطمة فاخترقه...

فاطمة مبتسمة: ”هذا ما يحدث عند مصافحة ملاك من نور“.. روزا تضحك قبل أن تبدأ النميمة في البنات.

هاشم أخو فاطمة الصغير الذي لم يبلغ الثانية يقترب من روزا ويحاول الإمساك بساقها لكن يده تخترقها فيدهش ويحاول مرة أخرى... نفس ما كان يفعله بخيط الماء أثناء استحمامه.. كل هذا وهما تثرثران غير مباليات به. ثم حاول الإمساك بساق فاطمة فصُدم حين اصطدمت يده بساقها فبكى... حملته فاطمة مهدئة له وضحكت: ”نعم، هذا مخيف، أن تتمكن من الإمساك بي“ فضحك بدوره وضحكت روزا..

نامت لورا تلك الليلة مبتسمة وهي تفكر بأن روتين الحياة اليومي والأسبوعي على الأرض جميل، حين أيقظها نور الشمس في اليوم التالي تضايقت منه، لكنها لم تصرخ.