حين صمتت الألوان وصاح ”الترند“... من سرق الطفولة؟
في زمن مضى، حين كانت خطواتنا الصغيرة تتبع ظل الشمس، وحين كانت أيادينا الصغيرة تتعلق بأقلام الشمع، لا بالهواتف الذكية، عشنا طفولة من نوع آخر. كنا نرسم أحلامنا فوق دفاتر الرسم، ونملأها بألوان عشوائية، لكنها صادقة. كانت الألوان صديقًا حميمًا لا يخذل، وكانت الأشكال البسيطة التي نلونها تعبيرًا عن خيال لا تحده شاشة، ولا يقيده محتوى مقترح.
تعلمنا الحروف من أصابعنا الملونة، لا من مقاطع ”يوتيوب“، وتعلمنا الفرق بين الخطأ والصواب من نظرة أم، لا من فيديوهات التحدي والمقالب. لم تكن أوقاتنا في الماضي تُستهلك، بل كانت تُصنع؛ لعبة مع أبناء الحي، سؤال بريء، ورقة شجرة تصبح سفينة، وصوتُ جدٍّ يسرد قصة قبل النوم. لم نكن نعرف معنى ”فلوغ“ ولا ”ترند“، ولم نشاهد أنفسنا من الكاميرات الأمامية، كنا نعيش فقط بقلوب ممتلئة، وضحكات لا تبحث عن التسجيل. أما اليوم، فإن الطفولة كما عرفناها تتآكل، تذوب بهدوء أمام أعيننا، بينما تتعلق أيدي أطفالنا بشاشات لا ترحم، وتُعاد برمجة عقولهم بلغة لا يختارونها، وواقع لم يصنعوه.
ففي زمن تراجعت فيه دفاتر التلوين أمام شاشات الهواتف، وبهتت ألوان الطفولة تحت وهج الضوء الأزرق، بدأت بعض الدول تدقُّ ناقوس الخطر، وتتخذُ قرارات حازمة للحد من استخدام الأطفال للمنصات الرقمية، بعد أن كشفت التقارير والقصص عن عمق التأثيرات النفسية والسلوكية التي يتعرض لها الصغار. ففي خطوة وصفت بالجريئة، قررت إحدى الدول حظر الوصول الكامل إلى بعض المنصات الرقمية، مثل ”يوتيوب“ و”فيسبوك“ و”تيك توك“ و”إنستغرام“، لمن تقل أعمارهم عن 16 عامًا، حمايةً لعقولهم النامية من سيل المحتوى غير المنضبط.
هذه الخطوة لم تأتِ من فراغ، فالعالم الرقمي بات اليوم من أخطر المؤثرات على الطفل، ليس فقط بما يحتويه من مشاهد صادمة أو رسائل خفية، بل لأنه أصبح البديل الحقيقي عن الأم والأب، والمعلم، والكاتب. الطفل الذي كان يسأل في الصف الأول عن حلمه وكان يقول، أريد أن أصبح طبيبًا، أو طيارًا. أما اليوم، فبعضُ الأطفال، ومن تجارب واقعية كوننا منتمين لسلك التعليم، يجيبُ الطفل: أريد أن أكون ”يوتيوبر“. هذا التحول ليس عيبًا في الأحلام، بل مؤشرٌ على مصدر تشكيلها.
في إحدى القصص الواقعية التي قرأتها، والتي ضج بها الإعلام، فتاة في الثالثةَ عشرةَ من العمر دخلت في نوبة اكتئاب حاد بعد أن تعرضت لحملة تنمر على ”إنستغرام“، بسبب مقارنات مؤذية بينها وبين مؤثرات الجمال على المنصة. وفي قصة أخرى مؤلمة، طفل لم يتجاوز العاشرةَ، قلَّدَ تحديًا مميتًا انتشر على ”تيك توك“، وانتهت محاولته بفقدان حياته. هذه ليست حوادث نادرة، بل نماذج لما قد يحدث عندما يُترك الطفل في مهب الريح الرقمي دون درع يحميه أو وعي يرسم له الحدود.
والأدهى من ذلك، أن الطفل الذي يُشاهد مقاطع المقالب أو تحديات العنف، أو يشاهد محتوى يتضمن ألفاظًا جارحة وسلوكيات منحرفة، لا يكتفي بالمشاهدة، بل يسعى لمحاكاتها، ظنًا منه أن هذه هي الواقعية، أو الشهرة. ويتفاقم الخطر حين يشارك هذه التصرفات مع أقرانه في المدرسة أو العائلة، لتصبح سلوكًا جماعيًّا يصعب السيطرة عليه.
ولا تقف المشكلة عند المحتوى فقط، بل تمتد إلى الخوارزميات التي تدفع الطفل نحو مزيد من الفيديوهات المماثلة، مما يصنع له دائرة مغلقة من التأثير السلبي. فالطفل الذي يُعرض له مقطع واحد من العنف، سيُقترح له عشرات مثله. والخوارزميات لا تهتم إن كان المتلقي طفلًا هشًّا أو راشدًا ناضجًا، بل تهتم بزيادة وقت المشاهدة، كما أن ”السوشيال ميديا“ صنعت نوعًا خطيرًا من المقارنة غير الواقعية. فالطفل يرى حياة المؤثرين تلمع، وملابس باهظة، وألعابًا لا يملكها، وسفرًا ورفاهية، فيظن أن الجميع يعيش هكذا، ويبدأُ في كره حياته الواقعية البسيطة. وحين لا يستطيع مجاراة هذه الصورة اللامعة، يصاب بالإحباط، وقد يدخل في اضطرابات نفسية عميقة لا تُرى بالعين المجردة.
ورغم ذلك تجد من الآباء من يفتخر بأن أبناءهم أذكياءُ رقميًّا، دون أن يدركوا أن الذكاء الرقمي ليس هو النجاةَ. فأن يعرف الطفل كيف يستخدم ”سناب شات“ أو ”يوتيوب“، لا يعني أنه يعرف كيف يحمي نفسه منهما. التكنولوجيا لا تطلب من الأطفال المعرفة، بل تفرض عليهم التلقي، وهنا مكمن الخطر. ولذلك، فإن القرار الذي اتخذته بعض الدول ليس قرارًا سلطويًّا، بل خطوة استباقية لحماية الأجيال القادمة من المنصات الرقمية على عقول لم تنضج بعد. وقد يكون هذا القرار دافعًا لنا لنسأل أنفسنا: كيف نحمي أبناءنا نحن؟ وهل يكفي أن نمنعهم أم أننا بحاجة إلى فهم أعمق للعلاقة المعقدة بينهم وبين الشاشة؟
الحل لا يكمن فقط في الحظر، بل في التوجيه. نحتاج إلى إشراك الطفل في حوار دائم حول ما يشاهده، وأن نمنحه أدوات التفكير النقدي، لا الخوف. نحتاج إلى تفعيل الأنشطة البديلة، كالرياضةِ والرسمِ والقراءةِ والحرفِ والزياراتِ العائليةِ. نحتاج إلى أن نجعل من وقت الأسرة وقتًا مقدسًا لا يقطعه إشعار أو فيديو مقترح. كما نحتاج إلى رقابة ذكية غير متسلطة، فيها ثقة وتوجيه، وتُعلّمُ الطفل كيف يكون مسؤولًا رقميًّا. ولا مانع من وجود برامج فلترة ومتابعة، بشرط أن تكون ضمن إطار تربوي لا بوليسي. ويبقى السؤال لولي الأمر وكل مربٍّ: هل سنترك أبناءنا يكبرون على يد الهواتف، أم سنعود لنمد أيديهم بدفاتر التلوين، ونكتب معهم من جديد حكاية طفولة تُشبههم، لا تشبه ما تفرضه الشاشات؟