آخر تحديث: 2 / 8 / 2025م - 7:09 م

الملامح المعسولة: حين يُسلب عقلك قبل مالك

في زحام الأيام، وبينما كنا نظن أننا تعلمنا من تجاربنا، وأن الحذر بات رديفًا لنا، يتسلل إلينا وجه لا يثير ريبة، وصوتٌ ناعمٌ كنسيم الصباح، يقول:

”أنا هنا لأساعدك، فقط اضغط على الرابط.“

ربما كنت مرهقًا ذاك اليوم، أو مهمومًا، أو فقط إنسانًا طيب النية يبحث عن بارقة أمل. فتثق. وتضغط.

منذ تلك اللحظة، تبدأ الحكاية.

شخص ما، لا تعرف اسمه الحقيقي، ولا حتى وجهه، يجيد استخدام الكلمات كما لو كان نحاتًا بارعًا، يشكّل ثقتك حتى تصير له. يتحدث إليك وكأنكما أصدقاء منذ الطفولة، بل أكثر من ذلك، كأنه يعرف ما يؤلمك وما تتمناه.

يقول:

”فقط أرسل لي رقم الهوية لأتأكد أنك أنت.“

”لن نطلب منك شيئًا شخصيًّا، فقط نحتاج رقم الحساب لتحويل الدعم.“

”نحن جهة رسمية، يمكنك التأكد لاحقًا.“

ولأنك إنسان…

تطمئن.

وتستجيب.

ولأنهم محترفون…

ينتظرون لحظة الهشاشة تلك. لا يهمهم من أنت، المهم فقط أن تفتح الباب.

وها هو الباب قد فُتح، لا على مصراعيه فقط، بل على سذاجة الثقة، ونقاء القلب، وقلة المعرفة.

تمر الدقائق… ثم تصلك الرسالة التي تشبه طعنة:

”تم سحب مبلغ 500,000 ريال من حسابك.“

نعم، خمسمئة ألف ريال… تبخّرت في لحظة واحدة.

ترتعش يداك، يضيق صدرك، تعاود الاتصال، فلا مجيب. لقد اختفى.

هو لم يسرق مالك فقط.

لقد سرق يقينك بالناس، وسرق جزءًا من كرامتك، وجعلك تعيد تعريف كلمة ”ثقة“.

لكن، أتعلم؟

اللص لم يأتِ بسكين. لم يكسر الباب. لم يصرخ.

لقد جاء بملامح معسولة، وبلهجة مطمئنة، وبتقنيات تجعلك تشعر أنه موظف رسمي.

إنهم لا يسطون على حسابك فقط، بل على وعيك.

إنهم يحترفون اقتناص الطيبين، ويجعلون الثقة فخًّا، لا فضيلة.

لماذا نقع في الفخ؟

لأننا ما زلنا نربّي أبناءنا على أن من يتكلم بلطف فهو صادق، ومن يبتسم فهو أمين، ومن يتحدث باسم ”جهة رسمية“ فهو لا يكذب.

ولأننا نحتاج أن نصدق… نصدق.

ولكن الاحتياج لا يُعفي من الوعي.

والألم لا يُبرر السذاجة.

رسالة لكل من يقرأ:

لا يوجد دعم يُرسل على عجل، ولا موظف يطلب بياناتك البنكية عبر رابط، ولا جهة رسمية تستخدم واتسابًا شخصيًّا.

كن واثقًا، لكن لا تكن مغفَّلًا.

افتح قلبك، لكن لا تترك بواباتك مشرعة لكل من يطرق.

وقبل أن تثق، اسأل نفسك:

هل لو كنت أنا في مكانه، كنت سأطلب ما طلبه؟

هل هو يريد مساعدتي… أم يريد أن يتقمص هيئة من يساعدني ليصل إلى ما أملك؟

… وتوقّف لحظة

في عالمٍ صار الوجع فيه رقمًا، والثقة عملةً نادرة، كن حارسًا لعقلك قبل حسابك، ولنيّتك قبل بياناتك.

لا بأس أن تكون طيّبًا، لكن اجعل للطيبة عقلًا يزن، لا قلبًا يُخدع.

لا بأس أن تثق، لكن لا تنسَ أن الذئب يلبس فرو الحَمَل حين يريد الاقتراب.

نحن لا نكتب لنتشفى بالضحايا، بل لنوقظ الذين ما زالوا في منتصف الحلم.

كن حاضرًا، منتبهًا، واعيًا… فالعالم لا ينتظر الطيبين كي يحنو عليهم، بل كي يستغلهم.

وفي كل مرة يطرق فيها بابك وجهٌ جديد…

اسأل نفسك بصوتٍ خافت:

”أترى… هل هذا صوتُ يدٍ تُمدُّ إليّ، أم يدٍ تُمدّ لسرقتي؟“

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
محمد المرهون
[ السعودية القطيف ]: 1 / 8 / 2025م - 10:43 م
مشاء الله اجمل مقالة
دكتوراه في فلسفة العلوم النفسية وباحثة دكتوراه في الأدب والنقد