آخر تحديث: 2 / 8 / 2025م - 11:59 ص

العارف الأخير: حين تُبصر العين ولا تنام

نازك الخنيزي

في الظلام، حين يغلق الجميع أعينهم اتقاءً لما قد يُرى، كانت الحقيقة تقف هناك، عارية، بلا أقنعة، تنتظر من يجرؤ على النظر. وربما كان الظلام أرحم مما ظننّا، فالنور لا يرحم حين يُظهر ما لا يُحتمل، والحقيقة، حين تُرى وحدك، لا تشبه النور بل تشبه الحرق؛ ليست معرفة بل ابتلاء، وليست صحوة بل وحدة.

تخيل أن تسير بين الناس بعينين لا تعترفان بما تراه أعينهم. ترى الزيف في الابتسامات، والفراغ في الضحكات، تسمع ما لم يُقَل، وتشعر بما لم يُلمَس. وحين تهمس: ”انظروا“ … يتراجعون كأنك جلبت عدوى، كأنك رأيت ما لا يُغتفر. فأنت لست غريبًا لأنك مختلف، بل لأنك تُبصِر.

العالم يواصل غيبوبته الطوعية، يقاتل من أجل أوهام العدل والحب والسعادة، وأنت على الحافة، تدرك أن الهروب من الحقيقة هو ما يجعل الحياة ممكنة. فالحقيقة لا تقتلك، لكنها تجرّدك؛ تخلع عنك الوهم، وتضعك عاريًا أمام هشاشة ما كنت تظنه جميلًا.

تلك هي لعنة الفيلسوف منذ أفلاطون: أن يخرج من الكهف ويرى، ثم يعود ليُكذّب. فالرؤية لا تمنح المجد، بل تُنزلك من علياء الجماعة إلى منفى الذات… ذاك المنفى الصامت الذي لا لغة له في عالم لا يحتمل الشفافية.

الوحدة ليست خيارًا، بل نتيجة إدراك لا يُشاركك فيه أحد. كأنك الغريب في وطنه، المستيقظ في حلمٍ جماعيّ. حتى أحبّاؤك، حين تهمس لهم بما ترى، ينظرون إليك كأنك تفتح أعينهم قسرًا. فالحقيقة تُربك، تُفسد الطمأنينة المصمّمة، وتذكّرهم أن تحت كل يقين، احتمالٌ يُخيف.

وتسأل نفسك في لحظة صفاء: هل كنت لتختار هذه البصيرة لو خُيّرت؟ وهل المعرفة نعمة… أم ابتلاء يُقاس بالصمت؟ ثم تفهم أنها لم تكن اختيارًا. الرؤية تحدث. تفتح عينيك فجأة، ولا يمكنك إغماضهما بعدها أبدًا.

ولأنك ترى، فإنك تعاني. ولأنك تعاني، تصمت. وإن نطقت، تُحاكم. من قال الحقيقة صُلب، ومن أفشى السرّ أُحرق. الحقيقة تُغتفر فقط حين تُريح، ويُصدَّق الصدق إن كان مألوفًا.

سقراط شرب السم لا لأنه ضلّ، بل لأنه سأل. الحلاج صُلب لأنه قال ”أنا الحق“، لا ادّعاءً… بل كشفًا. وبرونو أُحرق لأنه رأى عوالم لم تُدرج في قواميس القضاة.

ولأنك ترى، لا يمكنك أن تُقنع، ولا أن تُبرّر، ولا أن تعود. أنت الآن تمشي طريقًا لا يؤدي إلى أحد، تُحادث ظلك، تحاور المرآة، وتبتسم حين يتّهمونك بالمبالغة… ليس ظلمًا، بل لأنك كنت تعرف أنهم لن يفهموا. فالمعرفة لا تُورَّث، والعين التي أبصرت… لا تنام.

ومع هذا، ثمة لحظة تتسرّب فيها الطمأنينة، لا من الخارج، بل من وضوحك مع نفسك. لحظة تدرك فيها أن الرؤية، وإن كانت لعنة، فهي أيضًا صدق. وأنك، وإن كنت غريبًا، لم تخن نفسك.

الوضوح قد لا يمنحك مكانًا في القطيع، لكنه يمنحك وجهًا تستطيع أن تصافحه حين تنظر في الماء. وربما، فقط ربما، تكون هذه النعمة التي تشبه اللعنة… هي أعظم الهبات على الإطلاق.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
يوسف عيسى
[ صفوى ]: 31 / 7 / 2025م - 10:33 م
المقال يصور المعرفة كابتلاء لا كامتياز وهذا نادر في زمن تباع فيه الكتب على هيئة “وصفات للراحة”. الكاتبة تنكأ جراحا وجودية لكن بلغة شاعرية آسرة. سلمت يمينك .. من أجمل ما قرأت
2
عبدالله المعاتيق
1 / 8 / 2025م - 12:26 ص
ما فهمت بعض الجمل خصوصا لما ذكرت برونو والحلاج وسقراط. أحسه ثقيل على القارئ العادي لكن فكرته العامة وصلت: اللي يعرف الحقيقة دايما يدفع ثمنها.
3
مي عبدالباقي
1 / 8 / 2025م - 11:45 ص
الكاتبة جعلت من المعرفة موقفا وجوديا وليس مجرد اكتساب. هذا يعيد تعريف العلاقة بين الفكر والمجتمع. نص عميق يحتاج أكثر من قراءة.
4
عبدالرحيم عطية
1 / 8 / 2025م - 12:02 م
الطرح جميل لكنه يعزف على نغمة سوداوية فيها شيء من النخبوية: كأن العارف دائما معزول والمجتمع دوما قطيع. هل لا مجال للتصالح بين العمق والتواصل؟