المبادرة والإدارة: نجاح بلا توقف
تمر أمامنا أحيانًا فرص نادرة تُغيِّر مجرى حياتنا، وتفتح لنا دروبًا ما كان لها أن تخطر على البال، لكنها لا تنتظر طويلًا، ولا تطرق الباب مرتين، بل تمضي كأنها سحابة صيف عابرة في زحام الأيام وضجيج المسؤوليات، دون أن تترك لنا وقتًا للتأمل أو الاستعداد. وقد تختبئ الفرصة في هيئة فكرة طارئة، أو لقاء غير متوقع، أو حتى في صورة عقبة مفاجئة أو مشكلة تبدو مستعصية... لتختبر مَن فينا الأذكى بصيرة، والأسرع حركة على تحويل اللحظة الخاطفة إلى نقطة تحوّل حاسمة، كما يحدث حين تتحول أزمة إلى مشروع، أو شك إلى يقين، أو محنة إلى منطلق للنجاح.
وقد قال تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [آل عمران: 133]. وعن الإمام علي أنه قال: ”الفرصة تَمُرُّ مَرَّ السحاب، فانتهزوا فرص الخير.“ وقال
: ”من لم يُقدِم على العمل لم يُثمِر له الأمل.“
غير أن القلة فقط هم الذين يُدَرِّبون أنفسهم على الوعي والمبادرة، أولئك الذين لا يكتفون بأن تُتاح لهم الفرص، بل يسعون إلى خلقها أحيانًا، وإلى إدارتها بحكمة حين تطرق أبوابهم.
أما من اعتاد الانتظار والتردد، وركن إلى العشوائية والتلقائية، وترك نفسه تمضي مع التيار بلا هدف ولا بوصلة، فإنه لا يلبث أن يجد نفسه في مكان لم يختره، بل محاطًا بخيارات لم يصنعها. وقد يمضي به العمر وتتبدد الفرص من بين يديه، لا لأنه لم يملكها، بل لأنه لم ينتبه أو لم يتحرك في الوقت المناسب... فتكون النتيجة أن يمر قطار الإنجاز أمام عينيه، وتتسلل لحظات التحول من بين يديه، لا لشيء إلا لأنه لم يملك الجرأة على الخطوة الأولى.
وهنا تتجلى المعادلة الذهبية: ”المبادرة تُطلق الشرارة والإدارة تُبقي الشعلة مضيئة.“ فمن دون مبادرة يظل النجاح حلمًا مؤجلًا، ومن دون إدارة تصبح الانطلاقة ضياعًا بلا بوصلة. ولكن ما الذي نعنيه بالمبادرة، وما هي العلاقة بينها وبين الإدارة؟ وكيف نحول ثقافة المبادرة إلى ممارسة يومية في بيئة العمل والمجتمع؟
في اللغة ”المبادرة“ مأخوذة من الفعل ”بادر“ أي أسرع إلى الفعل، وهي تدل على التقدم نحو القيام بعمل قبل الآخرين، ومن غير إيعاز أو أمر.
أما في المعنى العرفي، فالمبادرة ”ترتبط غالبًا بالشجاعة في اتخاذ الخطوة الأولى، والاستعداد لتحمل المسؤولية والتفاعل السريع مع الفرص قبل أن تضيع.“
وأكاديميًا تُعرّف المبادرة بأنها: ”سلوك إرادي ذاتي ينطوي على اتخاذ خطوات فعلية لحل المشكلات أو اغتنام الفرص دون انتظار التعليمات، وهو ما يعكس مستوى عاليًا من الدافعية الذاتية وتحمّل المسؤولية.“
وتُعرّف أيضًا بأنها: ”سلوك استباقي موجه نحو التغيير، ويتسم بالاستمرارية، والابتكار، والقدرة على التأثير في المحيط العملي أو الاجتماعي.“
وقد ورد عن بيتر دراكر، أحد أعظم المفكرين في علم الإدارة الحديثة، وغالباً ما يُلقب بـ ”أب الإدارة الحديثة“ قوله: ”المبادرة لا تعني فقط فعل الشيء الصحيح، بل تعني فعله في الوقت الصحيح دون أن يُطلب منك.“
أما الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية جون كينيدي فقال: ”الذين ينتظرون الفرص قد لا تأتيهم أبدًا، أما المبادرون فهم من يصنعونها.“
كما أشار إلى هذه الحقيقة أيضًا سماحة العلامة الصفار - حفظه الله تعالى - في كتابه القيم ”الإنسان قيمة عليا“، إذ قال: ”المبادرة تجعل الإنسان رائدًا يقتحم مجالات لم يسبقه إليها غيره، وتدفعه إلى تحقيق إنجازات لم يُوفّق لها أحد قبله، فيكون قد شقَّ طريقًا جديدًا، وفتح أفقًا آخر أمام أبناء مجتمعه ونوعه الذين سيسلكون نفس الطريق بعد أن مهّده لهم، واكتشفه قبلهم، فيبقى هو الأول والمتقدم والسابق.“
في البداية يبدو كل شيء سهلاً... تولد الفكرة فجأة، يشتعل الحماس، تُكتب الأهداف، وربما تُنشر الصور والإعلانات على مواقع التواصل بعبارات براقة وجميلة، لكن ما إن تمضي أسابيع أو أشهر... حتى تتلاشى الحماسة، ويختفي المشروع، ويعود صاحبه إلى نقطة الصفر. وهنا تبدأ التساؤلات:
ماذا حدث؟ كانت الفكرة ملهمة والحماس كبير، فما الذي تغيّر؟ ولماذا تفتر الأفكار بعد بداياتها القوية؟
كشفت دراسة أجرتها جامعة هارفارد أن أكثر من 70% من المبادرات الفردية تنهار خلال الأشهر الثلاثة الأولى بسبب غياب المتابعة المنتظمة وافتقارها إلى خطط تنفيذية واقعية ومدروسة.
ولعل من أجمل ما يُروى في هذا السياق ما نُقل عن قصة شاب طموح أطلق قناة على اليوتيوب متخصصة في مراجعات الكتب ونشر الثقافة، بدأها بحماسة شديدة، ونشر منها عدة حلقات بروح شغوفة، غير أن التفاعل كان ضئيلًا، فخف حماسه وتوقف عن النشاط. وفي ذات الوقت، أطلقت طالبة جامعية قناة مماثلة، واستمرت رغم ضعف التفاعل، وقلة الدعم، وتكرار الشعور بالإحباط، ولكنها واصلت النشر والتطوير بصبر وثقة. وبعد ستة أشهر، بدأت تتلقى دعوات من دور النشر والمراكز الثقافية، وذاع صيتها بين المهتمين، لتصبح بعد عام مرجعًا معرفيًا للشباب ومحبي القراءة، ونموذجًا ملهمًا لمن آمنوا بأن الاستمرارية هي التي تصنع الفارق، لا الانطلاقة وحدها.
كثيرون هم من يبدأون بحماسة ويملأون البدايات وعودًا وأمنيات... ولكن القلة فقط هم من يملكون القدرة على الاستمرار حتى خط النهاية.
فالمبادرة وحدها، مهما كانت متوهجة، لا تكفي ما لم تُدعم بإدارة واعية تضمن الاستمرارية والتوازن، بل إن البعض رغم ما يملكه من طموح وإمكانات يتوقف في منتصف الطريق أو ربما يتراجع قبل اجتياز العقبة الأولى، لا لضعف في قدرته، بل أحيانًا بسبب غياب التشجيع أو التحفيز أو التثبيط أو نقص الثقة بالذات، أو ببساطة شديدة لأنه لم يجد من يأخذ بيده.
وهنا يتجلى دور الإدارة كجناح ثان للطيران، فكما أن الطائر لا يستطيع التحليق بجناح واحد، لا يمكن للمبادرة أن تنهض وتستمر من دون إدارة تواكبها، وتوفر الدعم لها، وتعيد التوازن حين تضعف العزيمة أو تتعثر الخطى. فالنجاح لا يُولد من لحظة انطلاق فقط، بل من رحلة متكاملة تحتاج إلى طاقة البداية وعقلية الاستمرار معًا. ومن هنا يمكن أن نطرح جملة من التساؤلات لفهم جذور هذه الظاهرة:
لماذا ينجح القليل في الاستمرار بينما يتوقف الكثيرون عند منتصف الطريق؟
وللإجابة على هذه الأسئلة، لا بد من الوقوف عند المحاور الأساسية التالية:
هل كانت الفكرة منذ البداية واضحة ومحددة المعالم، أم مجرد انطباع عاطفي في لحظة اندفاع؟
هل جرى تحويلها إلى خطة عمل واقعية بمراحل مدروسة؟ وهل تم استشراف العقبات والعراقيل المحتملة؟
وهل كانت لديك القدرة على الصبر والمرونة في مواجهة التحديات؟
الفكرة، تمامًا كالنبتة الصغيرة: قد تبدو واعدة، جميلة، تنال الإعجاب... لكنها تحتاج إلى الرعاية والماء والوقت والصبر وعين لا تغفل عنها، وإلا ستذبل كما ذبلت آلاف الأفكار التي بدأها أصحابها بحماسة وودعوها بصمت.
وهو نموذج يتكون من خمس مراحل متكاملة، وكل حرف منه يمثل مسارًا للتغير يبدأ من الإدراك وينتهي بالتمكين، كالتالي:
الوعي «Awareness»: وهو حالة عقلية أو ذهنية تُمكّن الفرد من إدراك وجوده والعالم من حوله والتمييز بين ما هو داخلي وخارجي، وتمنحه القدرة على اتخاذ القرار والفعل بناءً على إدراكه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
الرغبة «Desire»: وهي حالة شعورية ونفسية تدفع الفرد نحو هدف معين، وقد تكون نابعة من الحاجة أو من التخيل أو من التأثيرات الاجتماعية والثقافية، وتُعدّ من أقوى المحركات السلوكية في الإنسان، كما قال الإمام علي : ”قيمة كل امرئ ما يحسنه.“
المعرفة «Knowledge»: وهي مجموعة من المعلومات والحقائق والمفاهيم التي يكتسبها الإنسان من خلال التجربة أو التعلم أو التفكير أو الاستدلال أو الحواس، وتُستخدم لفهم العالم والتفاعل معه. ولذا لا يكفي أن نقول: ”بادروا“، بل ينبغي أن نعلّم ونُدرّب كيف يُبادر الناس، كما كان النبي ﷺ يقول: ”من دل على خير فله مثل أجر فاعله.“
القدرة «Ability»: وهي الاستعداد أو الإمكانية الكامنة لدى الفرد، والتي تُمكنه من أداء فعل معين، وهي تسبق المهارة، وتدل على ما يستطيع الإنسان فعله إذا توفر له التدريب أو الظروف المناسبة. ولذلك علينا أن نمنح الناس المساحة والوسائل، ونزيل العقبات عنهم، ونفتح لهم الأبواب، فكثير من الأفكار ماتت لأنها لم تجد ممرًا رسميًا تعبر منه.
التعزيز «Reinforcement»: وهو مصطلح يُستخدم في مجالات متعددة ويختلف معناه بحسب السياق، ولكن المعنى العام له يتمحور حول الدعم أو التحفيز أو التقوية، وقد يكون ماديًا أو معنويًا. ولذا ينبغي علينا أن نُكرم المبادر، ونحتفي به، وأن نشركه في صنع القرار، كما ورد في الحديث: ”من لا يشكر الناس لا يشكر الخالق.“ فالشكر والتقدير غذاء الاستمرارية.
هل تأملنا يومًا: لماذا لا تتحول الأفكار الإبداعية إلى واقع ملموس؟ ولماذا يكتفي كثيرون بالمبادرة كفكرة تلوح في الأذهان دون أن يعيشوها كسلوك؟
إنني أرى أن المشكلة ليست دائمًا في ضعف الإرادة أو ضعف الثقة بالذات أو حتى في ضعف التشجيع، رغم أهمية هذه العوامل، بل إن جوهر المشكلة في رأيي هو افتقادنا للمنهج الذي ندير به التغيير كما ينبغي. فالتغيير مهما كان محفزًا وملهمًا لا يثمر إذا لم يُدار بعقلية منظمة، وخطوات مدروسة، ورؤية واضحة المعالم.
لقد كنت وما زلت أؤمن بأن المبادرة ليست امتيازًا خاصًا بفئة النخبة، ولا فعلًا طارئًا نلجأ إليه تحت ضغط الأزمات، بل هي نمط حياة يجب أن يتغلغل في نسيج مؤسساتنا، ويتجسد في ممارساتنا اليومية ويغدو جزءًا من ثقافتنا العامة، لنصنع من خلالها واقعًا أفضل، ونواجه بها تحدياتنا قبل أن تتحول إلى أزمات تستعصي على الحل.
صحيح أن الواقع يُحتم علينا أن نُدرك أن طريق المبادرة لا يخلو من مقاومين يُقلّلون من الجهود، ويُهوّنون من الإنجاز، ويسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى إخماد جذوة الحماس بدعوى الواقعية أو الحذر، أو بأي اسم آخر كالحفاظ على التقاليد الاجتماعية أو البُنى التقليدية الموروثة وغيرها.
لكن... ورغم أن هذه المقاومة مفهومة ومتوقعة، فإنها لا ينبغي أن تُثنينا عن المضي قدمًا، بل ينبغي أن تدفعنا لتعزيز القناعة بأن كل فكرة رائدة، لا بد أن تُمتحَن، وأن كل تحوُّل يمر غالبًا من بوابة التشكيك قبل أن يرسو على شاطئ القبول.
وقد أشار إلى هذه الحقيقة العديد من العلماء والمفكرين حين أكدوا أن التغيير مهما كان إيجابيًا لا يسير دائمًا ممهدًا، بل غالبًا ما يصطدم بعقبات بشرية قبل أن يواجه التحديات المادية.
ولعل السيد بيتر دراكر، رائد علم الإدارة، عبّر عن ذلك بصراحة بقوله: ”الأمر الأصعب في التغيير ليس في ابتكار أفكار جديدة، بل في التحرر من الأفكار القديمة.“
وختامًا: يمكننا أن نقول إن المبادرة ليست رفاهية فكرية، ولا مشروعًا فرديًا مؤقتًا، بل هي شريان الحياة لأي مجتمع يسعى للتقدم.
أما الإدارة فهي العصب الذي يُحرّك هذه المبادرات بحكمة وتنظيم، وإذا أردنا فعلًا أن نصنع التغيير، فلا بد أن ننشر ثقافة المبادرة، لا كشعار نرفعه، ولا كحالة مؤقتة تفرضها الظروف، بل كممارسة واعية، وكمنهج مستدام. وأن نحفز ونشجع، ونقدر المحاولات الجادة، فإن أعظم ما يمكن أن نهديه لإخواننا ولمجتمعنا ولأوطاننا هو أن نكون جزءًا من الحل، لا أن نكون جزءًا من المشكلة، فذلك هو السبيل إلى التقدم والازدهار.