آخر تحديث: 1 / 8 / 2025م - 11:14 م

إلى أين؟!

عماد آل عبيدان

”رحم الله امرَأً عرف من أين، وفي أين، وإلى أين“

- أمير البيان، الإمام علي بن أبي طالب

كم عدد أولئك الذين يعرفون ”إلى أين“؟

وكم عدد أولئك الذين - وهم يسيرون - لا يدركون أنهم يتجهون إلى الخلف، رغم أن أقدامهم تمشي إلى الأمام؟

في مقالة لافتة للكاتب إبراهيم آل عبيدي بعنوان ”من الحاجة إلى الكينونة“، لفتني استحضاره لهذه المقولة الخالدة، لكن الأعمق كان ما تولّد في داخلي من أسئلة بعد أن قرأتها… أسئلة تسكنك ولا تدعك تمضي كأنك لم تُمسّ بها.

مشهد من أمسية… لم تغادرني

في ليلة من الليالي، كنتُ مدعوًا إلى جلسة عائلية في بيت أحد الأصدقاء.

البيت مضاء بأنوار خافتة، وأصوات الضحكات تتسلل من المجلس، تسبق طعم القهوة والشاي.

دخلت، فاستقبلني مضيفي مازحًا:

”أهلًا بمن يعرف من أين جاء، وفي أين جلس، وإلى أين يعود!“

ضحكنا… لكني لم أدرك أن تلك الجملة العابرة ستكون شرارة مقالٍ يسكنني حتى اللحظة.

في زاوية المجلس، جلس رجل مسنّ، ذو وجه يسرقك هدوءه قبل أن يسرقك كلامه.

لم يكن من الحضور المعتادين، فسألته:

”من نورك أيها العم؟“

قال بابتسامة:

”أنا ضيف عابر… أو هكذا كنت أظن.“

نظراته تابعت ما لم تقله الكلمات…

قال:

”كنت من الذين كتبوا كثيرًا، وتحدثوا أكثر… ظننت أني أفهم الحياة، ونسيت أن أسأل نفسي: إلى أين؟“

توقفت أصابعي في منتصف الرشفة بينما أكمل:

”كنت أُكتب… لا أكتب. أكتب لأبدو فصيحًا، لا لأكون صادقًا. أبحث في الكلمات عن مرآة تعكس صورتي، لا عن ضوء يدلّني.“

ثم انحنت نبرته قليلاً، وفيها من الأسى ما لا يُقال:

”كتبت في الدين ولم أكن متدينًا… وكتبت عن الفقر ولم أذق الجوع… وكتبت عن المبادئ، وأنا أساوم كل يوم.“

ثم ضحك — ضحكة مريرة — وقال:

”وكانوا يُصفّقون! حتى أنا… كنت أُصفّق لنفسي.“

أسئلة لا يجيدها الجميع

حدّق في وجهي طويلًا ثم قال:

”ابني… من يعرف من أين أتى، عليه أن يسأل أيضًا: مَن أرسله؟ ولماذا؟“

ثم باغتني بسؤال وجودي:

”وأنت؟ تكتب لمن؟ عن ماذا؟ ولماذا؟ … وإلى أين؟“

خرجت من تلك الأمسية وأنا مثقل بأسئلة، ليست من النوع الذي يُجاب عليه بمعلومة أو رأي، بل من تلك الأسئلة التي تشبه الطفل حين يسحب طرف ثوبك ويسأل فجأة:

”بابا، لو متنا… وين بنروح؟“

أحرجك السؤال، صح؟

كذلك تفعل فينا كلمات علي .

لا تهزّ آذاننا، بل تعرّي اتجاهات أرواحنا:

من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟

عندما يتحوّل المشي إلى دوران

هناك من يعيش وكأنه في منتصف فيلم لا يعرف بدايته ولا نهايته…

يتحدث عن الحياة وهو لا يراها، يسير باتجاه الوظيفة، ثم القرض، ثم التقاعد… ظنًا أنه يحيا.

وهناك من يضحك كثيرًا، لا لأنه سعيد، بل لأنه لا يريد لأحد أن يسأله:

”هل تعرف إلى أين؟“

وهناك من يكتب ويخطب ويتصدر، ثم يسقط سقوطًا حرًّا حين تصفعه الحياة بأسئلة لم يكتب عنها يومًا، لأنه ظنّ أن النهايات لا تخصّه.

حكاية طالب صغير… وكارثة كبيرة

في إحدى المدارس، كنتُ برفقة أحد الأصدقاء أثناء تقديمه ورشة للطلاب بعنوان:

”أحلام المستقبل.“

سأل طالبًا في المرحلة المتوسطة:

”وين تشوف نفسك بعد 10 سنوات؟“

ردّ بابتسامة:

”أنا؟ بس أبغى أعيش، وبعدين أشوف.“

سأله مرة أخرى:

”بس تعيش؟ طيب وإلى أين؟“

ردّ الطفل بتلقائية مخيفة:

”ما أدري… يمكن زي أغلب الناس… أمشي، وخلاص.“

تلك الجملة، رغم براءتها، جعلتني أخاف على جيل بأكمله.

جيل لا يسأل نفسه ”إلى أين؟“ لأنه يرى أن الكبار يمشون بلا خريطة، فلماذا يتعب نفسه هو بالسؤال؟

وميض الحقيقة:

”نحن لا نُهزم حين لا نعرف، بل حين لا نسأل.“

نُصنّع وعيًا زائفًا.

نعيش بلا بوصلة.

نُقنع أنفسنا أن عدد اللايكات مقياس النجاح، لا عدد الصادقين من حولنا.

كم من كاتب يتصدر المشهد لأنه يُجيد التزييف النظيف؟

وكم من صادق صامت، لو نطق، لهرب الجميع من شدة النور في كلماته، لأنهم اعتادوا العيش في الظل؟

يا صاحبي…

إن لم تعرف من أين أتيت؟ ستُصفق للاتجاه الخاطئ.

وإن لم تعرف في أين تقف؟ ستتحوّل خطواتك إلى دوران لا نهاية له.

وإن لم تسأل إلى أين؟ فستصل لمكانٍ لا رجعة منه.

ضحكنا كثيرًا في تلك الليلة…

لكنّي لم أنسَ الرجل الذي مرّ كعابر سبيل، وترك خلفه سؤالًا لا يغيب:

”إلى أين؟!“

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 3
1
محمد يوسف آل مال الله
[ عنك ]: 31 / 7 / 2025م - 1:17 ص
الأخ العزيز…
ثلاثة أسئلة تصنع حياة المرء وتحدد مساره في الحياة لمعرفة ما إذا هو على الطريق الصحيح أم تائه في دهاليز هذه الحياة المحدودة.

نسأل الله أن يكشف عنّا وعنكم ظلمات هذا الطريق وينير دروبنا بالعلم والمعرفة.
2
عماد آل عبيدان
31 / 7 / 2025م - 12:46 م
الأخ العزيز ابو يرسف
حيّاك اللّه على هذا التعقيب الذي لا يمرّ دون أن يوقظ شيئًا في الروح…
صدقتَ، فثلاثة أسئلة قد تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها قادرة على إعادة رسم خريطة الإنسان من الداخل، وتحريره من التيه المقنّع بثوب الحياة اليومية.

نعم… “من أين، وفي أين، وإلى أين” ليست مجرد عبارات بل بوصلات نجاة، لا يلتقطها إلا من أراد أن يسير بنور لا بشهرة، بعقل لا بعادة، وبصيرة لا بعجلة.

نسأل اللّه لنا ولكم أن لا نُترك للعادة ولا يُخذل فينا السؤال، وأن نُرزق تلك الهداية التي لا يشوبها ادّعاء، ولا تعيقها زخارف الطريق.

ممتنّ لحضورك الواعي، ولقلبك الذي يقرأ المعاني لا الكلمات.
3
عماد آل عبيدان
1 / 8 / 2025م - 10:43 ص
الأخ العزيز محمد يوسف آل مال اللّه،
حيّاك اللّه على هذا التعقيب الذي لا يمرّ دون أن يوقظ شيئًا في الروح…
صدقتَ، فثلاثة أسئلة قد تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها قادرة على إعادة رسم خريطة الإنسان من الداخل، وتحريره من التيه المقنّع بثوب الحياة اليومية.

نعم… “من أين، وفي أين، وإلى أين” ليست مجرد عبارات بل بوصلات نجاة، لا يلتقطها إلا من أراد أن يسير بنور لا بشهرة، بعقل لا بعادة، وبصيرة لا بعجلة.

نسأل اللّه لنا ولكم أن لا نُترك للعادة ولا يُخذل فينا السؤال، وأن نُرزق تلك الهداية التي لا يشوبها ادّعاء، ولا تعيقها زخارف الطريق.

ممتنّ لحضورك الواعي، ولقلبك الذي يقرأ المعاني لا الكلمات.