زهرات الأهلة: «محمد صالح الصفار» قيد الاختبار.. مأزق في المعادلة.
إن المضمون التجريبي لقضية ما يزداد بازدياد درجة قابلية تنفيذها، وكلما ازداد ما تمنحه قضية، كلما ازداد ما تنطق به عن «الواقع التجريبي». نستعمل ما نسميه المضمون التجريبي بمعنى قريب، وإن لم يكن متطابقًا مع مفهوم المضمون. كارل بوبر، منطق البحث العلمي، 2006 م.
يشير كلام الفيلسوف الألماني كارل بوبر إلى أهمية التجربة الميدانية لأية نظرية أو أي قضية تخضع للاختبار، والميدان التجريبي هو المحك الذي يعطينا المصداقية. وليس المطلوب في الحصيلة النهائية للتجارب تطابق الفرضيات مع النتائج 100%، بقدر ما تعطينا هذه التجارب الفكرة عن اقتراب هذه القضية أو ابتعادها عن أرض الواقع.
والحقيقة أننا اليوم أمام مراجعة هامة وضرورية لجدول حسابات المرحوم الحاج محمد صالح فردان الصفار لمعرفة بدايات الشهور العربية، المسماة «زهرات الأهلة»، وذلك بعد سنوات من الطرح والتجريب على أرض الواقع.
يعلم الجميع أن الحاج محمد صالح فردان الصفار هو معلم ومربي فاضل، وخطاط، تعلم بعض الدروس الدينية، صاحب أعمامِه، وكان مقربًا منهما، وهما العالِمَان البارزان المرحومان: الشيخ حسن الصفار المتوفى في العام 1335 هـ، والشيخ رضي الصفار المتوفى في العام 1374 هـ. وكان له موقعه الاجتماعي والثقافي في جزيرة تاروت، ولد في العام 1315 هـ، وتوفي في العام 1409 هـ.
مارس التعليم في الكتاتيب، على فترة من الفترات في مجلس الوجيه جاسم بن محمد عبد الوهاب الفيحاني في منطقة دارين بجزيرة تاروت.
الحاج محمد صالح الصفار هو جدي لوالدتي، درست عنده، وجلست معه كثيرًا، كان دمث الأخلاق، يحب الناس، ويحب خدمتهم. كنت أتوقع منه الفرح والاستبشار لو كان هذا التصحيح حدث في حياته، إلا أنه شاءت قدرة الله أن يرحل من هذه الحياة الدنيا. وكونه جدي، لا يتلبسني شعور بالاستلاب، أو الشعور بالهالة القدسية المانعة لإبداء الرأي والملاحظة، خصوصًا إذا ما كان هذا التصحيح يعيد للنص أو للموضوع أو القضية هيبتها، ويقرِّبها أكثر إلى الواقع، ولا تتناقض مع الواقع إذا ما حدث العكس، ولم تُترك القضية دون نقاش.
للحاج محمد صالح مجموعة من الآثار والكتابات، أغلبها لا تزال مخطوطة، باستثناء ما صدر باسمه عن مؤسسة البقيع لإحياء التراث بعنوان: زهرة المنازل في معرفة بيوت القمر في كل ليلة من ليالي الشهور العربية، الطبعة الأولى 1420 هـ، بيروت، تحقيق الكاتب محمد دكير.
ومن خلال المتابعة والنشر، كانت السنوات الأولى تشير بوضوح إلى مصداقية الحساب الذي وضعه المرحوم الصفار. ومن المعلوم أن حساب الأيام والشهور «زهرات الأهلة» لدى المؤلف يعتمد على إعطاء السنوات رقمًا فرديًا يتغير كل تسع سنوات، يرجع في السنة التاسعة إلى الرقم الواحد، ويعتمد في مكان آخر على مصفوفة الأيام التي وضعت على شكل جدول، يمتد من رقم واحد إلى الرقم ثمانية، لكن هذه الأيام أيضًا ليست مصفوفة بشكل منتظم، وليست عشوائية بشكل كامل.
يعتمد المرحوم الصفار في هذا الجدول ترتيبًا بسيطًا، وهو أن يعطي يومين متتاليين ثم يُفلت اليوم الثالث ويعود للانتظام في اليوم الرابع والخامس بالطريقة الموضحة:
هذه العملية في الحساب جميلة، ومسلية، وصادقة، لكنها بالطبع ليست بديلًا أبدًا عن الرؤية الشرعية والاستهلال. لذلك ومع وجود الإعجاب الضمني «من وجهة نظري الشخصية» لهذا العمل ولهذا الجدول، لكنني ومنذ بداية نشري المتتابع لهذا الجدول رأس كل شهر، والذي انتظمت في نشره منذ العام 1422 هجري على الأرجح.
كانت زهرات الأهلة صادقة في أغلب الأحيان، وتفترق عن الواقع بفارق يوم واحد في مرات أخرى، وهذا أمر مقبول بشكل عام كجدول يقترب من الواقع أكثر مما يتطابق معه.
كنت ألاحظ الإخفاق في التوقع عندما يقترب رقم السنوات في الصعود ما فوق رقم 4، وقد اكتشفت ذلك منذ فترة طويلة أن ثمة مأزقًا في حساب الأيام يقع بالضبط في نهاية السطر رقم 3، وبداية السطر رقم 4، أما عموديًا يقع المأزق أسفل العمود الأخير رقم 12 الذي يندرج أسفل شهر ذي الحجة، ويتصل بالعمود الأول المندرج أسفل شهر محرم الحرام.
ومع أنني لاحظت ذلك، إلا أنني في الحقيقة بدأت أبحث عن مبررات لهذا الخروج، وللأسف لم أجد مبررًا سوى ما سنوضحه لاحقًا. أعدت الحسابات وأعدت ترتيب الأرقام من جديد، لكن هذا الخطأ واقع لا يمكن الغمغمة أو السكوت عليه.
وعلى نفس المنوال ذهبت لأرى إن كان ثمة خطأ إملائي أو كتابي وقع في الموضوع، فراجعت جسم مخطوط المرحوم محمد صالح الصفار المسمى: زهرة المنازل القمرية، فرأيت أن الجد قد فصل في موضوع وطريقة هذا الحساب في الوثيقة، ولاحظت أنه قد كتب وأعاد الكتابة بعد أن طمس وأعاد في تسمية الأشهر دون المساس بالأيام، وبقيت كما هي. ووجدت أن الجد قد أحالني إلى واحد من المصادر المهمة في الصفحة 28 من مخطوطته زهرة المنازل القمرية.
لقد أشار إلى كتاب عجائب المخلوقات للقزويني، وقال إنه ملحق مع كتاب الحيوان للعلامة القزويني نفسه، وذكر أن رقم الصفحة هو 127 من الكتاب، الأمر الذي دعاني للتفتيش عن هذا المصدر ومراجعة الجدول إن كان موجودًا.
لقد وجدت المعلومة في المصدر المذكور، لكن في الصفحة 71 من كتاب عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات للإمام العالم زكريا بن محمد الكوفي القزويني.
والمفاجأة أنني وجدت أن الخطأ عينه كان موجودًا لدى جدول القزويني، وبقدرة قادرٍ انتقل نفس الخطأ إلى مخطوطة زهرة المنازل القمرية للمرحوم الصفار. وهنا يتضح أن الجد محمد صالح الصفار نقل هذا الجدول من كتاب عجائب المخلوقات والحيوانات للقزويني دون التدقيق في التفاصيل، ولم تكن السنوات قد تكررت على الجدول في حياته، الأمر الذي أوصلها لنا بعلّاتها.
في المخطوطات يتوخى الإنسان الحذر في التصرف فيها لاعتبارات كثيرة، منها أن هذه الوثائق والمخطوطات هي من عمل آخرين، وأن التصرف فيها يفقدها بريقها وانتسابها إلى صاحبها. لكن والحال هذه على صعيد هذا الجدول، فإننا في الواقع أمام خيارين:
1 - أما أن نتركها على علّاتها وحالتها التي وُجدت عليها، ويمكن التعليق عليها في الهامش.
2 - والخيار الآخر هو أن نقوم بالتصحيح وإيضاح ما قمنا بتصحيحه، وأن نحاول قدر الإمكان الحفاظ على ديمومة العمل وأصالته؛ لكيلا يُنسب هذا العمل لغير صاحبه.
هنا نجد أن الإخفاق موجود بالأصل لدى العلامة القزويني، وانتقل إلى وثيقة المرحوم الصفار. وبعد أن قمنا بالتعديل على الجدول الموجود لدى كل من العلامة القزويني والمرحوم محمد صالح الصفار، حافظنا في نفس الوقت على نفس الإبداع الموجود في الجدول. ما حدث يمكن التعبير عنه بالغفلة أو النسيان، وجلَّ من لا يسهو. وبالتالي طبقنا نفس القاعدة التي سار عليها كل من القزويني الصفار وأصلحنا الخلل أو النقطة المنسية، ونأمل أن يتقبل الله منا هذا الجهد اليسير، والله ولي التوفيق.