مفارقة التقييم والقبول: دراسة نقدية لمسارات الطلاب بعد الاختبارات المعيارية
تناقش هذه الدراسة ظاهرة التباين بين أداء الطلاب في الاختبارات المعيارية (التحصيلي، القدرات، اختبار ستيب، واختبار الآيلتس) وبين نتائج القبول الجامعي التي قد لا تعكس ذلك الأداء بدقة أو عدالة. وتتناول الأبعاد النفسية، التعليمية، والاجتماعية لهذه المفارقة، إلى جانب البُعد المالي المترتب على رسوم تلك الاختبارات. وتسعى إلى تقديم توصيات عملية لإصلاح السياسات التعليمية بما يحقق الإنصاف الأكاديمي وتمكين الطلاب من التخصصات التي تتوافق مع قدراتهم وميولهم.
شهدت السنوات الأخيرة اعتمادًا متزايدًا على الاختبارات المعيارية كوسيلة لتحديد مدى أهلية الطالب للالتحاق بالتعليم الجامعي. وتتمثل أبرز هذه الاختبارات في:
- اختبار القدرات العامة الذي يقيس مهارات التفكير المنطقي والاستدلال.
- اختبار التحصيلي الذي يقيّم المحتوى المعرفي المُكتسب من مراحل التعليم العام.
- اختبار ستيب STEP المحلي واختبار الآيلتس IELTS الدولي، وكلاهما يُستخدم لتحديد مستوى الكفاءة اللغوية في اللغة الإنجليزية.
كما أصبحت منصة القبول الموحد مركزًا لعملية فرز وترشيح الطلاب على أساس هذه النتائج، مما أدى إلى تحوّل مسار الطالب الجامعي إلى عملية حسابية بحتة قد تتجاهل اعتبارات شخصية جوهرية كالميول والدافعية. وفي ظل تكرار حالات القبول غير المرغوب فيه أو الرفض رغم الأداء المتميز، تبرز هذه المفارقة بوصفها قضية تربوية تستدعي تحليلًا منهجيًا ونقديًا.
ترتكز الدراسة على عدد من المبادئ التربوية والنفسية، منها:
- نظرية التوافق الأكاديمي والمهني (Holland, 1997).
- مبادئ القياس والتقويم التربوي كما وردت في أدبيات الهيئة السعودية للتقويم والتعليم.
- مفاهيم العدالة التعليمية وتكافؤ الفرص في بيئات التعليم العالي.
كما تعتمد على تحليل وصفي ونقدي للممارسات المعتمدة في أنظمة القبول الجامعي، مع مراجعة عيّنة من الأدبيات والدراسات المحلية والدولية ذات الصلة.
لا يقتصر التحدي على اجتياز هذه الاختبارات، بل يشمل أيضًا تحمّل تكاليف مادية مباشرة تؤثر على القدرة على المنافسة:
- رسوم اختبارات التحصيلي والقدرات تُدفع غالبًا في أكثر من مناسبة، ما يرهق الأسر من ذوي الدخل المحدود.
- اختبار ستيب يتطلب رسومًا ثابتة غير قابلة للاسترجاع، وقد يُعاد لأغراض تحسين المستوى.
- اختبار الآيلتس يُعدّ من أعلى الاختبارات تكلفةً، خاصةً في حال التقديم لجهات دولية أو برامج ابتعاث.
هذا العبء المالي، إذا ما قُرن بنتائج قبول لا تتناسب مع هذه الجهود، يُضيف طبقة من الضغط النفسي والاقتصادي ويثير تساؤلات حول عدالة النظام الحالي.
أظهرت ممارسات القبول أن:
- بعض الطلاب الذين حصلوا على نتائج مرتفعة لم يُقبلوا في تخصصاتهم المرغوبة، دون تفسير واضح.
- طلاب آخرين وُجّهوا إلى تخصصات لا تتماشى مع ميولهم، مما أثّر على تحصيلهم ومشاركتهم داخل البيئة الجامعية.
الأثر الناتج يشمل:
- انخفاض في الدافعية الأكاديمية والرغبة في التعلم.
- ظهور مؤشرات على الاحتراق النفسي والتوتر المزمن لدى الطلاب غير المتوافقين مع تخصصاتهم.
- هدر للموارد التعليمية والمالية دون مردود فعلي على مستوى الأداء أو التمكين المهني.
بناءً على التحليل السابق، تقترح الدراسة ما يلي:
- اعتماد نظام تقييم تكاملي يراعي الأداء الأكاديمي إلى جانب اختبارات الميول والتفضيلات الشخصية.
- تفعيل دور الإرشاد التربوي والنفسي منذ المرحلة الثانوية لضمان توجيه سليم وواقعي للطالب.
- إعادة النظر في رسوم الاختبارات المعيارية وجعلها أكثر إنصافًا، عبر آليات دعم أو إعفاء جزئي للطلاب المحتاجين.
- منح الطالب الفرصة لتعديل التخصص خلال السنة التحضيرية بناءً على الأداء الفعلي والرغبة الشخصية.
- تطوير منصة القبول الموحد لتكون تفاعلية وتراعي التنوع الفردي، لا مجرد آلية تصنيف رقمية.
تطرح هذه الدراسة إشكالية تربوية مركزية تتعلق بمصداقية وفعالية أنظمة التقييم والقبول الجامعي، وتحديدًا في ظل الاعتماد المتزايد على الاختبارات المعيارية كمؤشر وحيد للجدارة الأكاديمية. فبينما يُفترض أن هذه الاختبارات تمثل أدوات للعدالة وقياس الكفاءة، إلا أن الواقع يفرز نتائج تُظهر اختلالًا في العلاقة بين التقييم والقبول، وتُضعف من ثقة الطالب في منظومة التعليم الجامعي برمّتها.
ويُعدّ هذا الاختلال أكثر تعقيدًا حين يُنظر إليه من خلال عدسة متعددة الأبعاد؛ فالأمر لا يرتبط فقط بأداء الطالب أو نتائجه، بل يمتد ليشمل عبئًا نفسيًا، اجتماعيًا، وماديًا. إذ إن الطالب لا يُقدّم تلك الاختبارات فحسب، بل يستثمر فيها وقتًا وجهدًا ومالًا، وفي نهاية المطاف يجد نفسه في تخصص لا يتماشى مع أهدافه أو يُرفض تمامًا، مما يُحدث شرخًا في تجربته التعليمية والذاتية.
إن هذا التباين بين الجهد المبذول والنتيجة المحصلة يُشير إلى قصور في فلسفة التقييم الحالية، والتي لا تُراعي الفروق الفردية ولا تسمح بمرونة في التعامل مع طموحات الطلاب. فالطالب ليس مجرد درجة رقمية أو ترتيب في قائمة مفاضلة، بل هو كيان متكامل يحمل طموحًا، ميولًا، وسِمةً شخصية يجب أن تُؤخذ في الاعتبار عند اتخاذ قرار جوهري كاختيار التخصص الجامعي.
بناءً عليه، تدعو هذه الدراسة إلى ضرورة إعادة النظر في أسس التقييم والقبول، وفتح حوار تربوي جاد حول سبل تطوير السياسات التعليمية، بحيث تكون أكثر شمولًا، عدالة، وتفهمًا لتعقيدات الواقع الأكاديمي. ويجب أن يكون الهدف الأساسي من تلك السياسات هو تمكين الطالب، لا إقصاؤه، وتوجيهه نحو المسار الذي يُعزز من إمكاناته ويُهيّئه لمستقبل يتماشى مع تطلعاته وقدراته.
وفي ظل التغيرات العالمية المتسارعة في منظومات التعليم والتوظيف، فإن إصلاح هذه المفارقة لم يعد ترفًا تربويًا، بل هو حاجة ملحة تتطلب استجابة مؤسساتية واعية، تضع الطالب في قلب العملية التعليمية، وتُعيد الاعتبار إلى الإنسان قبل النظام.