مجلس عزاء على فقيدة
تعلمتُ، كما كثيرون غيري، في أنظمة تعليمية حكومية لم يكن معظم معلميها يكترثون بعدد أصحاب المعدلات المرتفعة، ولا يسعون لتوزيع التفوق جزافًا على من لا يستحقه. ورغم ما شاب ذلك التعليم من قصور، فقد بقي في مجمله أبعد عن الهوس بالدرجات، وأقرب إلى احترام المعرفة لذاتها. أما اليوم، فقد تحوّلت الدرجة إلى غاية مستقلة، تدفع بعض الطلاب إلى هوس محموم، حتى لتُقام له مجالس عزاء عند خسارة درجة، وتنهال عليه عبارات المواساة، وكأنما فقد أبًا أو أمًا! في هذا المناخ، يتراجع جوهر العلم - من فهم وتحليل ونقد - ليحلّ محلّه سعيٌ شكلي لا يُعنى بالفهم قدر ما يركّز على النتائج. وحين لا ينبني التحصيل على إدراك حقيقي، يصبح - في نظر هؤلاء - مشروعًا منطقيًا في ظل واقعٍ قاسٍ: مقاعد جامعية محدودة، ومنافسة شرسة على القبول، فيغدو تبرير الوسائل أمرًا معتادًا، حتى لو شمل المطالبة بتجاهل الأخطاء وعدم الحسم عليها.
يواجه عدد غير قليل من المدرسين ضغوطًا اجتماعية متواصلة، مصدرها في الغالب أولياء الأمور الذين يُبدون أقصى درجات التذمّر عند حدوث أي حسم في درجات أبنائهم. الطريف - والمبكي في آن - أن كثيرًا منهم يعلم أن أبناءه قد أخطأوا، وأن ميزان العدالة الأكاديمية يقتضي الحسم، لكنه يطالب بتحويل الخطأ إلى صواب، وبتقويم الورقة تقويمًا لا يُراعي الحقيقة بل يراعي ”المصلحة“! ومع مرور الوقت، أصبح هذا السلوك وكأنه ”حق مكتسب“، وغدا المعلم الذي يلتزم بالمعايير الأكاديمية يُوصم ظلمًا بأنه ”قاسٍ“ أو ”غير متفهم“. لا تتوقف الاتصالات، ولا تهدأ الشكاوى، ولا يبرأ المعلم من حديث المجالس والمنتديات التي تنظر اليه باعتباره ظالمًا. ولو كان بوسع بعضهم - تهكمًا لا جدًا - أن يُعلن الحرب على المعلمين لفعل! إنها حالة هوس حقيقية بالدرجات، يصح وصفها بأنها ظاهرة مرضية مستشرية في المجتمع.
في اعتقادي، أن التعليم الحقيقي هو ما يبني شخصية الإنسان، ويؤهله لخوض غمار الحياة بثقة واقتدار. لكن يبدو أن نسبة غير قليلة من طلاب اليوم قد جعلوا الدرجة هي الغاية الأسمى من التعليم، لا وسيلته. وقد أسهم هذا الانحراف في تكوين شخصيات غير متزنة، تفتقر إلى روح الإنصاف والتقدير للجهد العلمي. وحين يُطرح الخيار بين تعلم يقود إلى المعرفة، وآخر يقود إلى الدرجات فقط، يُقدَّم الخيار الثاني بلا تردد. أما المعلم، فبات مطالبًا - لا فقط بالتغاضي عن الأخطاء - بل بمنح الدرجة الكاملة للطالب في كل وقت وتحت كل ظرف، مهما كانت جودة الإجابة ومن لا يفعل ذلك، يُتهم فورًا بالظلم، أو بعدم تفهم ”الظروف“، ويُحمّل مسؤولية أزمة لم يصنعها، ليغدو شاهد زور على تقدمٍ تعليميٍّ يعلم أنه مزيف. أما من فقد درجة، فستراه يقيم مجلس عزاء، ويستقبل المعزين بكلمات الحزن والأسى، على فقيدةٍ كان يراها أثمن من المعرفة ذاتها.