آخر تحديث: 31 / 7 / 2025م - 3:51 م

حين يختبر الله القلوب… درس في الصبر والرحمة

رضي منصور العسيف *

كان الصباح يتسلّل إلى أروقة المستشفى بخطى وادعة، ينساب ضوء الشمس عبر النوافذ العالية كيدٍ رحيمةٍ تربّت على الأرواح المرهقة، وتهمس لها: اصبري… فموعد العافية قريب.

في تلك الأجواء المفعمة بالرجاء والألم، كانت أمل تستلقي على سريرها بعد أربعة أيام من العملية الجراحية التي أُجريت لها في القفص الصدري. كانت تتنفس الألم كما يتنفس الغريق آخر أنفاسه، لكنها في أعماقها كانت تُدرّب قلبها على الصبر، وتحدّث نفسها:

”كل وجعٍ يقرّبني خطوة نحو الشفاء.“

في إحدى الليالي، جاءت لتشاركها الغرفة مريضة مسنّة تجاوزت الثمانين عامًا. كان الليل ساكنًا إلا من صراخها المبحوح، وهي تردد بحرقة:

”حسبي الله عليكم… حسبي الله عليكم!“

حاولت أمل أن تغفو، لكن الصوت كان يمزّق سكون الغرفة مرّة بعد مرّة. نظرت إلى تلك المرأة بحزن وقالت في نفسها:

”أين أهلها؟ كيف يتركونها وحيدة في هذا الحال؟“

وفي صباح اليوم التالي، علمت أن أحد أبنائها أحضرها إلى المستشفى ثم غادر، تاركًا إيّاها تصارع الألم بمفردها. عندها تمتمت بمرارة:

"يا له من عقوق… ألم يقرأ قوله تعالى: ﴿وَبَرًّا بِوالِدَتي وَلَم يَجعَلني جَبّارًا شَقِيًّا [مريم: 32]

ظلت المرأة تصرخ حتى غلبها التعب، فهدأت أخيرًا. عندها أغمضت أمل عينيها، تغتنم لحظة سلام قصيرة قبل أن تعود المعاناة من جديد.

وفي قلبها تمنت لو كان باستطاعتها النهوض لتطمئن عليها، لكن ألم العملية وقلة حيلتها لكونها من ذوي الهمم جعلتها عاجزة عن الحركة، فاكتفت بالدعاء بصوتٍ خافت:

”اللهم هون عليها ألمها، وكن لها معينًا في غربتها.“

في العصر، جاءت والدة أمل لزيارتها. وبعد أن روت لها ما حدث، نظرت الأم إلى تلك العجوز المستلقية بلا وعي، ثم وضعت يدها على كتف ابنتها وقالت بحنان:

— ”اصبري يا ابنتي… لعلّ الله يختبر صبرك بهذه المرأة، واحتسبي الأجر، وستخرجين بإذن الله معافاة.“

قبل الغروب، دخلت شابة مسرعة، على وجهها ملامح أسفٍ عميق. اقتربت منهن وقالت بصوتٍ متهدج:

— ”أنا ابنة هذه المريضة… جئت لأكون معها مرافقة، وأعتذر لكم كثيرًا عمّا سبّبته من إزعاج.“

ثم تابعت بعينين دامعتين:

— ”لقد سقطت أمي وانكسر حوضها، وأُجريت لها عملية صعبة. جاء بها أخي بالأمس، لكنه لم يستطع البقاء، فقد كان يقوم برعايتها ليل نهار، ولو استطاع المرافقة لبقي معها… أما أنا، فقد كنت في منطقة بعيدة، وها أنا الآن أتيت لأكون إلى جانبها.“

اعتذرت مرة أخرى، ثم جلست بجوار أمها تمسح على يدها بحنان، وكأنها تعتذر للعالم كله عن لحظة ألمٍ غابت عنها.

ابتسمت أمل وقالت بهدوء:

”جعلكم الله من البارين بها… فبرّ الوالدين بابٌ لا يُغلق من الرحمة.“

في صباح آخر، دخلت الممرضة بابتسامتها المعتادة، تحمل الدواء بيدها وتقول بلطف:

— ”كيف حالك اليوم يا أمل؟ آمل أن يكون الألم أخف.“

ابتسمت أمل رغم التعب، فأجابت:

— ”الحمد لله… كل يوم يمرّ أشعر أنه خطوة نحو الشفاء.“

جلست الممرضة قربها وقالت بصوتٍ مفعم بالصدق:

— ”نحن الممرضات نرى في كل غرفة حكاية وجعٍ وأمل. أحيانًا أعود إلى بيتي مثقلةً بصورٍ لا تفارق ذاكرتي، لكنني أذكّر نفسي أن لمسة يد، أو كلمة طيبة، قد تكون الدواء الذي لا يُصرف في الصيدلية.“

كانت كلماتها كبلسم على قلب أمل، فأدركت أن الرحمة لا تقتصر على ما يفعله الأطباء، بل على كل قلبٍ يختار أن يخفف الألم، ولو بابتسامة صادقة.

في نهاية اليوم، أغمضت أمل عينيها وهمست شاكرة:

”الحمد لله الذي ألهمني الصبر تلك الليلة… فلم أتذمّر من صراخها، ولم أشكُ لأحد.“

وأدركت أن لكل وجعٍ حكايةً خفية، وأن الصبر ليس مجرد احتمال للألم، بل بابٌ للرحمة والأجر.

وكان الدرس الأعظم:

• أن الصبر طريقٌ للشفاء.

• أن الرحمة قد تكون في كلمةٍ طيبة أو لمسة حانية.

• أن وراء كل صرخة ألم إنسانًا يتمنى لو لم يُثقل كاهل أحد بوجعه.

• وأن العطاء الصادق يترك في القلوب أثرًا لا يزول.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
مريم خليف
29 / 7 / 2025م - 9:11 م
المشهد اللي صار بين أمل والعجوز ذكرني بتجربة شخصية لما كنت أرافق والدتي بالمستشفى. فعلا الإنسان يكتشف كم الرحمة اللي ممكن تصدر من شخص مريض تجاه غيره. الله يكثر من أمثال هالقلوب .
2
جعفر عباس
29 / 7 / 2025م - 11:58 م
المقال مو بس عن صبر المرضى بل عن صبر من حولهم. أحيانا يكون الشخص على حافة الانهيار وكلمة وحدة تسنده.
كاتب وأخصائي تغذية- القطيف