أسماء الشوارع وصناعة الوعي
ما عاد اسم الشارع مجرّد عنوان يُسجّل في الأوراق الرسمية أو يُذكر على لوحة مرورية. نحن اليوم أمام فرصةٍ لصياغة ذاكرة حيّة تنبض في تفاصيل المدن، وتخاطب الناس بلغتهم اليومية. فحين تُقرّ وزارة الشؤون البلدية والإسكان قواعد تنظيمية جديدة لتسمية الشوارع والميادين، فهي لا تضع حبرًا على خرائط، بل تفتح نافذة لتشكيل ملامح وجدانية تؤثّر في المشهد الحضري، وتنسج علاقة أعمق بين الإنسان والمكان.
الاسم لا يُطلق عبثًا، بل يُزرع بعناية. لأن الإنسان يتشكّل بصمتٍ حين يمرّ يوميًا بشارع اسمه ”التفاهم“ أو ”الحزم“، دون أن ينتبه، فإن الكلمة تترك أثرًا في الداخل، وتعيد ترتيب المزاج والذهن والنفس. ليس مطلوبًا من الشارع أن يكون طبيبًا نفسيًا، لكن اسمًا حسنًا قد يُحدث فرقًا، لأن التسمية الذكية لا تُخبرك فقط أين أنت، بل تُلهمك إلى أين يمكن أن تصل. فحين تصبح ”ساحة الانطلاق“ ملتقى، و”طريق المستقبل“ ممرًا يوميًا، فإن الشارع يكفّ عن كونه مجرد بنية مادية، ويغدو جسرًا نفسيًا بين الداخل والخارج. نحن لا نطلب من الكلمات معجزات، لكننا نعرف أنها قادرة على الإلهام، وعلى أن تتعاون، بصمتٍ وذكاء، مع الإنسان.
تسمية الشوارع ليست مهمة عابرة، ولا شأنًا إداريًا صرفًا، بل هي فرصة لبناء هوية مدنية راقية تُشعر الناس أنهم يعيشون في مكان يُحسن مخاطبتهم. ولهذا، نحتاج إلى لجان متخصصة تضم مثقفين، ومفكرين، وخبراء في علم الاجتماع والنفس والتخطيط العمراني، تضع في اعتبارها ما يمكن أن تفعله الكلمات في النفس حين تتكرر يوميًا، دون وعظٍ مباشر أو محاضرة نمطية.
اللغة التي نختارها لتسمية الشوارع يجب أن تكون مدنية، ملهمة، ومحفزة. هناك مفردات لا تكلّفنا شيئًا، وتمنحنا الكثير، كلمات مثل ”الابتكار“، ”الازدهار“، ”التعاون“، ”المثابرة“، ”الصفاء“، ”التوازن“، ”الريادة“، و”التألق“. وحين تُسمّى الأحياء بأسماء تليق بها، ك ”حيّ الفكر“، ”حيّ السلام“، ”حيّ السعادة“، أو ”حيّ التنمية“، فإن المدينة تبدأ بالحديث بلغةٍ تشبه ما نحلم أن نكون عليه.
الطفل الذي ينشأ في ”شارع التعاون“ ويذهب إلى مدرسته عبر ”جادة الطموح“، يتلقّى كل يوم دروسًا صامتة لا تُدرّس في الفصول، بل تُزرع في النفس على مهل. وحين يرى زائرٌ من الخارج أن أسماء شوارعنا تنطق بالاتزان والطموح والعمل الجماعي، يدرك أنه في مدينة تُفكّر، تمنح لكلماتها معنى يتجاوز الإرشاد إلى الإلهام. فليس غريبًا أن تصبح الأسماء جزءًا من شخصية المكان، تمنحه حضورًا وذاكرة طويلة الأمد. وعندما تختار المدينة أسماء شوارعها برويّة، فإنها تُعلن في الخفاء حبها لمواطنيها، وحرصها على تشكيل وعيهم إيجابيًا، لأن الاسم الذي نراه كل صباح قد يكون بذرة لأمل، أو همسة تهدّئ رياح الداخل. فلنختر أسماءً تقول للناس، أنتم في وطنٍ يُحسن الإصغاء إليكم، وفي مدينة تُفكّر معكم، وتُريدكم أن تحلموا كما ينبغي أن تحلموا.
وأجمل ما في التسمية الواعية أنها تُلهم الأجيال. تجعل الطفل يحفظ ”شارع الهمة“، ويتساءل عن ”ميدان الصبر“، ويشعر بأن ”حيّ الإبداع“ ليس مجرد اسم جميل، بل قدرٌ ينتظره. فهذه ليست شعارات تُزيّن الجدران، بل رسائل تربوية غير مباشرة، تزرع في الناس وعيًا بالمستقبل، وتُربّيهم على أن المدن ليست أبنية فقط، بل أرواح تسكنها الكلمات.
كل اسم جيّد هو نبضٌ في قلب الوطن، وكل لافتة تحمل قيمة تُصبح درسًا عابرًا في بناء الإنسان. نحن نريد مدنًا تُوقظ ساكنيها كل صباح بأسماء تحفّزهم، وتربطهم بجذورهم، وتدفعهم نحو أفقٍ أرقى. وعندما نسير في شوارع تُمجّد العلم، وتحيي الذاكرة، وتكرّم القيم، نشعر أننا في وطنٍ لا يُهمل التفاصيل، ولا يُفرّط بالمعنى. إن اسم الشارع قد يكون أول درس في المواطنة، وأقصر طريق لتعزيز الانتماء.
أما التسميات العشوائية، فإنها تُفقد المدن هيبتها ورونقها. ومن يحمل حقّ التسمية بحق، هو من يمتلك رؤية حضارية تتجاوز اللحظة، وتُحسن قراءة الإنسان والمستقبل معًا. نريد لجانًا تختار بعينٍ ترى الداخل والخارج، تُجيد الإنصات للروح، وتكتب الأسماء ليس بالحروف فقط، بل بالحسّ، وبفهمٍ عميق لما يمكن أن تفعله الكلمة في أعماق النفس.
ولعل من أهم ما ينبغي مراعاته أيضًا، هو البعد الروحي في تسمية الشوارع والأحياء، بحيث تعبّر الأسماء عن القيم الإيمانية والسكينة الداخلية، مثل، ”الرحمة“، ”الرضا“، ”السكينة“، لتكون الشوارع سكنًا للروح والجسد معًا. هذه الخطوة، إذا فُعّلت برؤية شاملة، يمكن أن تُعيد للأماكن روحها، وللناس انتمائهم، وتجعل من تفاصيل اليوم عنصرًا نابضًا بالمعنى.