حين يأكلك الكرسي
لم يكن المرض وحده ما أقعد زيدان ذاك المدير الذي جلس طويلاً على كرسي لم يكن له. بل كانت لعنة الكرسي ذاته، تلاحقه في وحدته، وتنهشه في صمته، حتى صار جسده الممتد على السرير مجرد هيكل لجثة حية… جثة لا تزال تتنفس، لكنها فقدت كل أسباب الحياة.
كان يظن أن المكاتب تُشيد على الأوامر، لا على القيم. أن الترقية تُؤخذ بالغلبة لا بالجدارة. كان يظن أن الغضب قوة، والبطش سيطرة، والنفوذ غاية تستحق التضحية بكل شيء… حتى بالإنسان نفسه.
في شركة الأواني البلاستيكية، بدأ حكاية تسلقٍ لم يسندها فكر، ولا يبررها تفوق. بل كانت قصة نجاح مزيف، كتبها نفوذ مصلحي، ووشى بها مدير متقاعد فرغت طاولته فجلس عليها ”سرحان“ كمن يقتحم منزلاً ليس له.
وهنا بدأت فصول السقوط…
فمن غرفته التي حُرم منها بالأمس، جلس اليوم آمراً ناهياً، يتحكم في أرزاق العباد كما يتحكم الطفل في ألعابه. مارس أقسى أنواع القمع الإداري، وصنع حروبًا صغيرة ضد كل ناجح، وضد كل فكرة، وضد كل من يذكّره بأنه مجرد صدفة على كرسي أكبر من قامته المهنية.
كان ”أبو أحمد“ أحد أولئك الذين لم تفسدهم السلطة ولم تُغرِهم المجاملات. شابٌ طموح، جاء كنسمة تجديد… لكنه دخل على إعصار متضخم اسمه زيدان، الذي لم يحتمل العدل ولا الابتكار، فصب عليه جحيم الإهانة والخذلان، حتى اضطره للمغادرة بصمت العظماء… وما كان من أبو أحمد إلا أن سلّم أمره إلى السماء وقال عبارته: ”حسبي الله ونعم الوكيل“.
ويا لها من كلماتٍ حين تُقال من قلبٍ مظلوم… فإنها تهز عرش الظالم ولو بعد حين.
فبينما كان ”أبو أحمد“ يصنع مجدًا في فرعٍ آخر، كان ”زيدان“ يغرق في كرسيه كمن غرق في وهم السلطة… يطرد، يخصم، يعاقب، ويكدّس الأوراق… لكن الفارغ لا يُنتج إلا فراغًا.
ثم… جاءت لحظة الحقيقة.
تفتيش، لجنة، أوراق مكشوفة، سجلات مزورة، وقرار نهائي: إما أن ترد ما سرقت، أو تُواجه العدالة.
فاختار الهروب… وانسحب إلى بيته كما ينسحب الليل عن فجرٍ تأخر كثيرًا.
الآن، لا موظف يزوره، ولا صديق يواسيه. حتى من تملقوه يومًا تخلوا عنه. وزوجته، التي عاشت ظل سلطته، اختارت الهجرة إلى حيث الأمان. أما هو، فبقي في المنزل، وجها لوجه مع نفسه… تلك النفس التي لم يعترف بها حين كانت تصرخ طلبًا للرحمة.
”جوع المشاعر“ … هكذا سمّى ألمه، وهو يحدّق بسقف غرفته الباردة. ليس جوعًا للطعام، فالأدوية كثيرة والماء حاضر، بل جوعٌ لابتسامة صادقة، ليدٍ تربت على قلبه، لحضنٍ يعيد إليه ما تبقى من إنسانيته.
وفي منتصف هذه العتمة، تذكر آخر كلمات ”أبو أحمد“، وبدأ يبكي كما لم يبكِ من قبل. كانت دموعًا تحمل وزر السنوات، وحجم السقوط، وألم الاعتراف المتأخر.
لكن… هل يكفي البكاء؟
هل تغفر الحياة لمن تذكر الرحمة بعدما أهدرها؟
هل هناك وقتٌ لإصلاح ما مضى؟
ربما… وربما لا.
ما نعلمه حقًا أن العدل لا يموت، وأن السلطة لا تملك القلوب، وأن الإنسان، مهما ارتقى على أكتاف الآخرين، سيسقط ذات يوم، إن لم يكن بما فعله، فبما افتقده.
أما زيدان … فقد بقي في غرفته، كل يوم ينام على أمل أن يصحو إنسانًا ”وهو على كرسي في غرفة باردة… وسرير ينتظر التوبة“