تحليل التكاليف الصحية كأداة استراتيجية لبناء نظام صحي مستدام وفعّال مالياً
في ظل التحديات المتسارعة التي تواجه الأنظمة الصحية محليًا وعالميًا، تزداد الحاجة إلى أدوات تحليل دقيقة تمكّن المنشآت من تحسين كفاءة استخدام الموارد دون التأثير على جودة الخدمات الصحية. ويُعد تحليل حسابات التكاليف أحد أبرز هذه الأدوات وأكثرها تأثيرًا، نظرًا لما يوفره من فهم عميق لبنية التكاليف، والقدرة على ضبطها، ورفع كفاءة الأداء المالي والإداري في بيئة عمل معقدة ومتعددة المتغيرات.
تُقسم التكاليف في المنشآت الصحية إلى ثلاث فئات رئيسية:
• التكاليف المباشرة: مثل الأدوية، المعدات الطبية، وأجور الكوادر الطبية والفنية المرتبطة بتقديم الخدمة.
• التكاليف غير المباشرة: وتشمل الأجور الإدارية، تكاليف الطاقة، الصيانة، والإيجارات، وتبقى ثابتة نسبيًا بغض النظر عن حجم الخدمة.
• التكاليف المتغيرة: كتكاليف الأدوية والمستلزمات، والتي تتغير بحسب عدد المرضى ومستوى التشغيل.
تحليل هذه التكاليف يعتمد على مؤشرات مالية مهمة مثل:
• نسبة التكلفة إلى الإيرادات
• العائد على الاستثمار «ROI»
• متوسط الإنفاق على كل مريض
يتطلب التحليل الفعّال لفهم منظومة التكاليف وجود متخصصين في الاقتصاد الصحي، ممن يستطيعون ربط الموارد المالية بالنتائج الصحية على نحوٍ يضمن استدامة الأداء وتحقيق الأثر.
وتشير الدراسات إلى أن العديد من الإنفاقات الزائدة تعود لضعف الربط بين النفقات والتشغيل، لا سيما في مجالات العدوى والتعقيم، والتي تشكل تحديات مباشرة ومكلفة في حال الإهمال أو ضعف الإجراءات.
الإهمال في إجراءات التعقيم والوقاية قد يؤدي إلى:
• زيادة مدة إقامة المرضى.
• مضاعفات صحية تستدعي تدخلات إضافية.
• استهلاك غير ضروري للأدوية والمستلزمات.
كل ذلك يؤدي إلى ارتفاع التكاليف التشغيلية وانخفاض رضا المرضى وسمعة المنشأة.
تُعد نظافة ملابس الكوادر الطبية من العوامل الوقائية المهمة، حيث يجب غسلها داخل المنشآت وفق معايير صارمة تشمل:
• استخدام حرارة مرتفعة.
• مواد تنظيف مضادة للبكتيريا.
• تعقيم فوري قبل إعادة الاستخدام.
الإهمال في هذا الجانب يعرض الكادر والمرضى لمخاطر عدوى يمكن تفاديها.
كثير من المنشآت تُخطئ حين توظف عمالة غير متخصصة في النظافة الطبية بهدف تقليل التكاليف، وهذا الخيار غالبًا ما يؤدي إلى:
• ضعف في التعقيم اليومي.
• تراكم الملوثات في دورات المياه والغرف.
• زيادة احتمالات انتقال العدوى.
الاستثمار في عمالة مؤهلة للنظافة الطبية يُعد جزءًا من النظام الوقائي وليس رفاهية.
أنظمة التكييف قد تتحول إلى وسيلة لنقل الجراثيم في حال عدم صيانتها. من آثار التكييف غير النظيف:
• انتشار التهابات الجهاز التنفسي.
• استهلاك مرتفع للطاقة بسبب ضعف الكفاءة.
• تراجع جودة الهواء داخل المنشأة، ما يؤثر على راحة المرضى والكوادر الصحية.
الحل يتمثل في جدولة دورية للصيانة والتعقيم والفحص الدقيق لمخرجات الهواء.
لضمان تحقيق التكلفة الفعالة «Cost-Effective»، لا بد من:
• تحليل التكلفة مقابل الفائدة لكل خدمة صحية.
• توجيه الإنفاق نحو الخدمات الأعلى عائدًا على صحة المريض.
• اعتماد أنظمة المستشفيات الإلكترونية «HIS».
• الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بالاحتياجات وتوزيع الموارد.
هذه الأدوات تسهم في تقليل الهدر، وتحسين تجربة المريض، ورفع كفاءة الإدارة الصحية.
من خلال خبرتي في الاقتصاد الصحي ومحاسبة البيئة، أؤمن أن تطوير منظومة التكاليف في المنشآت الصحية ليس هدفًا إداريًا فقط، بل هو أساس لبناء مجتمع يتمتع بصحة أفضل وجودة حياة أعلى.
كل قرار مالي ذكي في القطاع الصحي يمكن أن ينعكس على:
• تقليل العبء المالي على المرضى.
• تحسين الرعاية الوقائية.
• تعزيز ثقة المجتمع بالمنظومة الصحية.
• تحفيز الاستثمار في الابتكار والتقنيات الصحية الحديثة.
بالتالي، فإن إعادة تصميم التفكير المالي في المنشآت الصحية هو إحدى الركائز لتحقيق مجتمع صحي منتج ومستدام، وهذا ما أسعى إليه عبر الدراسات والمشروعات التي أشارك بها.
تحليل حسابات التكاليف في المنشآت الصحية لم يعد ترفًا إداريًا، بل ضرورة محورية لضبط النفقات، وتحقيق التوازن بين الجودة والاستدامة.
إن إنشاء برامج تدريبية وطنية لتحليل التكاليف، وربطها بقرارات التشغيل والخدمة، هو ما تسعى إليه وزارة الصحة السعودية ضمن توجهاتها الطموحة في رؤية المملكة 2030.
وبينما نخطو نحو مستقبل صحي أفضل، فإن ربط الإنفاق بنتائج صحية واقعية يُعد الخيار الأذكى لمؤسسات تُعلي قيمة الإنسان، وتطمح لنظام صحي فعّال، مستدام، ومبني على المعرفة والابتكار.